ملف المياه المشتركة بين العراق وإيران   

 

   

 

 

(هور الحويزة من المواجهة الى آفاق التعاون)

 

الجزء الرابع                                                  

                                                   د. حسن الجنابي

                                                   خبير في الموارد المائية وسفير العراق لدى منظمة الفاو

 

اولا:

بدأت الخلافات بشأن الحدود في منطقة شط العرب في القرن الثامن عشر، اذ لم تُثر قبل ذلك اية مشكلات حول عائديته او السيادة عليه. وبغرض التذكير فقط،ودون اسهاب، فان القرن العشرين شهد توقيع ثلاث اتفاقيات حدودية شملت ترسيما للحدود المائية في شط العرب،الاولى اتفاقية الاستانة العام 1913 عندما كان العراق تحت النفوذ العثماني،والثانية في العام 1937 حيث كان العراق يخضع عمليا للنفوذ البريطاني وآخرها هي اتفاقية الجزائر عندما كان العراق تحت حكم البعث في العام 1975.

فبناء على اتفاقية 1913 رسمت الحدود حسب تقرير لجنة ترسيم الحدود لعام 1914، التي قضت ان تكون الحدود النهرية في منطقة شط العرب، وابتداء من نقطة التقاء الحدود البرية حتى المصب، هي مستوى المياه المنخفضة عند الجانب الشرقي للشط، اي عندما يكون البحر في حالة جزر، ما عدا المنطقة المقابلة لمدينة عبادان، حيث يكون خط الحدود في ذلك الشريط الذي يبلغ طوله حوالي (7) كم هو المجرى العميق للشط، اي خط التالوك (Thalweg Line)،للسماح للبواخر التجارية الايرانية بحرية الحركة امام ميناء المدينة.

اما في اتفاقية 1937 فقد اكد الطرفان الاعتراف بالحدود المائية كما رسمت في بروتوكول ترسيم الحدود المائية في العام1914بدون تغيير الى ان عقدت اتفاقية الجزائر لعام 1975 حيث تخلى صدام  عن سيادة العراق على النصف الآخر من شط العرب،بتوقيعه على ان خط الحدود في شط العرب هو المجرى العميق للنهر وليس مستوى المياه المنخفضة عند الحدود الشرقية.

ثانيا:

من المفيد ذكره ان ايران لم تكن راضية عن اتفاقية العام 1937 وخصوصا بندها المتعلق بالحدود النهرية في منطقة شط العرب، واشيع ان بريطانيا كانت تضغط باتجاه زيادة المسافة التي يتبع بها خط الحدود في شط العرب المجرى العميق للشط الى (16) كم بدلا من (7) كم، لاعطاء المزيد من المرونة للبواخر الايرانية والدولية لتصدير النفط، الا ان شاه ايران آنذاك، وفي اوج قوته العسكرية لجأ في العام 1970 ومن طرف واحد الى الغاء اتفاقية 1937، مصادرا بذلك حقوق العراق التاريخية بشط العرب، وهو اجراء لجأ اليه بصيغة مشابهة صدام حسين في العام 1980 والغى بموجبه اتفاقية الجزائر لعام 1975 التي وقعها بنفسه، وصادر هو الآخر حقوق ايران في شط العرب، والتي ثُبّتت في الاتفاقيات السابقة، مستغلا فترة اطاحة الشعب الايراني بحكم الشاه.

دخل البلدان بعد ذلك في حرب مدمرة استمرت (8) اعوام ازهقت فيها ارواح مئات الآلاف من شباب البلدين واستنزفت قدراتهما المادية، وتحطم اثرها النظام البيئي لشط العرب نفسه، الذي كان سببا رئيسا للحرب، فلم يعد صالحا للملاحة ولا الزراعة، نتيجة للغوارق والتلوث وصعود اللسان الملحي شمالا، بسبب انحسار المياه العذبة من الجانبين العراقي والايراني، اي من الانهار الاربعة الكبرى دجلة والفرات والكرخة والكارون، وما زاد في الكارثة فداحة ان صدام  وبعد الحرب الطاحنة،اعترف مجددا باتفاقية الجزائر لعام 1975 لتنظيم علاقة البلدين.

ثالثا:

لقد اثبتت الحرب العراقية - الايرانية ان السلام المائي لايتحقق بالتفوق العسكري بل بالسياسات الذكية التي تستجيب للمصالح المشتركة، وان الخلافات المائية مهما عظمت فان التفاوض السلمي بشأنها هو الوسيلة الافضل لمعالجتها، والمفاوضات وان كانت مضنية وطويلة فهي افضل من اية حرب مهما كانت قصيرة.

وبقدر تعلق الامر بشط العرب فان الحرب حولته الى نهرٍ او ممرٍ مائي شبه ميت، ونظرا لطول مدة الحرب، وادراك نظام صدام المتزايد لفداحة تنازله عن نصف الشط، وبدافع منع ايران من الاستفادة منه، فقد عملت حكومة صدام آنذاك على التخلص من شط العرب، عبر الغاء وظائفه المعتادة، وذلك بتحويله الى ممر غير صالح للملاحة او اي شيء آخر، وشرعت بالتفكير والعمل على ايجاد بديل ملاحي له في الجانب العراقي وهو مبزل المصب العام (الذي اطلقت عليه تسمية نهر صدام)، الذي تضمن تصميمه هويسا ملاحيا(Navigational Lock) وتم تغيير مساره، بسبب طبيعة التربة جزئيا، ليستخدم كذلك في تجفيف هور الحمّار (مسطح مائي عميق تبلغ مساحته في مواسم الربيع حوالي 3500 كم مربع)، وليصب في قناة كبيرة شقت آنذاك لتأدية الاغراض الملاحية والتجفيفية نفسها سميت "شط البصرة" في محاكاة واضحة لتسمية "شط العرب" المنوي القضاء عليه، تقع الى الغرب من مدينة البصرة وتربط نهر كرمة علي مع خور عبد الله في رأس الخليج. علما ان نهر كرمة علي هو احد روافد شط العرب،اذ يمثل مصبا لهور الحمّار في شط العرب،وكما هو معروف فهور الحمّار يتغذى اساسا من مياه الفرات اثناء الجزر البحري، ومن مياه الانهار الثلاثة الاخرى، اي دجلة والكرخة والكارون، عن طريق كرمة علي اثناء المد البحري ،حيث تجري مياه الشط والكرمة شمالا لتعزز خزين الاهوار العراقية وتحفظ نظامها الايكولوجي الطبيعي.

على الجانب الآخر من شط العرب انشأت ايران سلسلة من السدود الكبرى على نهر الكارون وفروعه تزيد سعتها الخزنية على (15) مليار متر مكعب، اي ما يساوي معدل جريان نهر الكارون السنوي، ولذلك فهي قادرة على حجز مياه النهر بالكامل، ومايتبقى منها يتم التحكم به عن طريق تحويله الى نهر بهمشير الذي يسير بمحاذاة شط العرب ويصب في الخليج.

لذلك فان شط العرب ومحيطه البيئي وشروطه الاقتصادية والاجتماعية وغابات النخيل وشبكات الري الكثيفة، وقنوات البصرة الشهيرة المرتبطة به (العشار والخندق والرباط والسراجي والخورة والجبيلة) قد تعرضت الى دمار هائل، وتم القضاء عمليا على الفوائد الايجابية لظاهرة طبيعية هي ظاهرة المد والجزر البحري،التي تحيا بها الطبيعة وتنعش التجارة والاقتصاد والصيد وخصوبة الارض والزراعة والسياحة والنقل النهري والبحري وما شاكل ذلك.

رابعا:

لقد تضمنت اتفاقية الجزائر لعام 1975 بين البلدين ملحقا خاصا بالمياه الحدودية الاخرى عدا شط العرب، و يشكل هذا الملحق - بدون شك - اطارا جيدا للتعاون بين البلدين، ولكنه كان بحكم المنسي ولم يجر تفعيله او الحديث عنه، ارتباطا بالظروف التي احاطت باتفاقية الجزائر منذ توقيعها وحتى هذه اللحظة، بالرغم من تغيير نظامي الحكم المسؤولين عن توقيعها، والتقارب الاقتصادي والسياسي بين البلدين منذ العام 2003.

فالملحق، وهو جزء من الاتفاقية، ذكر وبالاسماء اهم الانهار المشتركة بين البلدين وحدد حصة كل منها في المادة الثانية منه، وجدير بالذكر ان قسمة المياه في نهر الوند والطيب ودويريج جرت في وفق تقارير لجنة ترسيم الحدود لعام 1914.

اما المادة الثالثة الخاصة بتشكيل لجنة فنية بعدد متساوٍ من الخبراء لاجراء الدراسات الفنية والمشاريع المشتركة والاشراف على كل متعلقات الممرات المائية فلم تشكّل او لم تفعّل، حسب علمي، وقد اكون مخطئا. كما اشارت المادة الرابعة الى ضرورة تحقيق الاستخدام الامثل للانهار المشتركة وحددت اطرا زمنية للرصد المشترك والاتفاق على الحصص المائية للبلدين في ضوء ذلك.

لاشك ان تفعيل هاتين المادتين من الاتفاقية يصب في مصلحة البلدين ويجنبهما سوء الفهم الذي يسود في الاوساط الشعبية على الحدود، خاصة في حالات الشحة، اضافة الى انه يعزز الشعور المشترك بالحرص على استدامة الموارد المائية المشتركة.

خامسا:

من البديهي فان المشكلات لا تختفي بالسكوت عنها، ولذلك وبغض النظر عن حجم الاختلاف في وجهات النظر فيما يتعلق باستخدام المياه الحدودية، سواء في شط العرب او غيره من الانهار الحدودية او العابرة للحدود، وحتى لو تركت جانبا القضايا التي تعتبر بحاجة الى معالجة سياسية على مستويات عليا، سيبقى هناك الكثير مما يجب ويمكن معالجته لمصلحة البلدين الجارين ووفق الاتفاقيات النافذة ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1 - تحديد المجرى العميق او خط التالوك لشط العرب، لانه متحرك وقد تغير منذ العام 1975 لاسباب بعضها طبيعي وبعضها الاخر بسبب الحروب والغوارق، او تراكم الترسبات او بناء السدود او عوامل التآكل والتعرية في احد الجوانب وزحف موقع المصب

وغيرها.

2 - احياء عذوبة شط العرب وخصوبة الارض ومنع صعود المياه المالحة شمالا واعادة مزارع النخيل وانعاش مصائد الاسماك والملاحة النهرية.

3 - العمل المشترك على احياء هور الحويزة ورفع الموقع من سجل مونترو (Montreux Record) وهو السجل المودع لدى اتفاقية رامسار ويضم قائمة المواقع ذات الاهمية الدولية التي تتعرض الى مخاطر التدهور او التدمير.

4 - تحديث معارف المؤسسات والاطراف الوطنية المعنية بالشأنين المائي والبيئي وتطوير القدرات البشرية وقواعد البيانات في ضوء التقدم العلمي الهائل منذ توقيع الاتفاقيات السابقة.

5 - تحقيق الامن المائي المشترك وتطوير سياسات التكيف مع حالات اللايقين المائي التي يزيدها تعقيدا التغير المناخي، والعمل على استغلال الموارد المشتركة بوسائل مستدامة.