توفير الحماية ... بداية لنهاية أم نهاية!!

 

                     

                                                            

                                                                               

                                                                                 المونسنيور بيوس قاشا

في البدء... ما دفعني إلى كتابة هذا المقال وتحت هذا العنوان، صبي في التاسعة من عمره، طالب في مركز الناصرة للتعليم المسيحي في رعيتنا مار يوسف. جاءني مسرعاً قبل دقائق من بدء درس التعليم المسيحي وسألني الآتي:                                                                                                                                             

يا أبانا، ماذا تعني كلمة "توفير الحماية"؟... فقد أنصتُّ البارحة عصراً لحديث دار بين والدي وصديق زائر له، وكان كلامهما يدور حول مَن يحمينا، مَن يحمي المسيحيين، لماذا قَتْلُ المسيحيين، لماذا تهجيرهم، مَن يوفر لهم الحماية... لم أفهم شيئاً فالموضوع كان أكبر من إدراكي وأعمق من تفكيري، ولكني إستطعتُ أن أحفظ هاتين الكلمتين "توفير الحماية"، فقررتُ أن آتي وأسألكَ، إذ لا زال السؤال يدغدغ أفكاري مستهزئاً بحماية الأيام. إذ كنتُ قد تعلّمتُ الأسبوع الماضي من مدرّستي أنَّ مَن يحمينا هو الرب يسوع، المعلّم الإلهي، هو الذي يوفر لنا هذه الحماية، وهو الذي قال:"لا تخافوا" (لو 4:12).

 

قبّلتُه، وتأمّلتُ مجيئه وسؤاله وانصرافه، وأدركتُ ساعتئذٍ عظمة أجيالنا الصاعدة وهم يحملون حماية يسوع في قلوبهم بإيمانهم وشجاعتهم وشهادتهم، وشكرتُ الرب على هذه النعمة.

توفير الحماية... وما أدراك ما تعنيه... كلمة سيادية... إستضعافية... تَهين طالبَها وتَذلُّ ناطقَها... مَن يحتمي تحت عنوانها يُهان، والمُهين هيرودس آخر، يفتش عن قتل الطفل (متى 16:2) تحت ذريعة حمايته، وخوفاً من أن يُحتَلّ كرسيه ومنصبُه... إنها غذاء الساسة ومفتشي الغايات والنهايات، كما رُوِّجت دواءً مسكِّناً، وبروفيناً مخفِّظاً لضغطٍ ثائر خوفاً من هيجانه... ما أقساها من كلمة، وما أخجلها من مهنة... فالحامي الحقيقي هو القدير على كل شيء (متى 25:11)... والحامي الحقيقي هو الراعي الصالح الذي يفتش عن رعيّته، بل عن قطيعه، عن غنم رعيّته (يو11:10)... أما مَن يحتمي تحت مسمّياتٍ أخرى فهو قصير النظر في فكره، وبعيد المحبة في أخلاقه، ومحتّلُ الإرادة في إنسانيته... وإهتمامه بِمَن يحميه ما هو إلا غطاء، فهو يعمل على إحتلالهم وكبتهم وتصغيرهم، بل حتى إهانتهم... والسؤال دائماً سيبقى يطرح نفسه: ما هو مصيرنا... ومَن يحمينا... ومَن سيدفع الثمن... نحن المحتمين أم أجيالنا التي ستولد صغيرة أمام مَن يحميها؟.

 

لندرك جيداً، وأقولها حقيقة، إن الكنيسة أمَّنا تعلّمنا أن المسيحيةَ قامت على دماء الشهداء، ونشأتها حافلة بمآثرهم وبقديسيها... والعبارة التي ذاع صيتها ونرددها منذ ترتليانوس وحتى شهداء العراق الأبرياء "دماء الشهداء بذار الحياة"، لا زالت تُنمي فينا بذرة الرجاء... فكلما زاد الإضطهاد، كلما زاد تجدد الروح، وليس حمل الحقائب والهزيمة... وعبر هذه الشهادة أقول: لا نيأس، فاليأس كلمة لا وجود لها في قاموس الإيمان المسيحي. فكل الإضطهادات ما هي إلا لتجديد الإيمان في الكنيسة، وفتح عيون المسيحيين وغيرهم على حقائق ثابتة، وهي أن الشهادة سِمَة المسيرة المسيحية، ولا خوف من القتل والإضطهاد والتهجير، فهذه صفات قائين، وأما تلك ما هي إلا حماسة الإيمان (متى 10:8).

 

ومن هنا أسأل: لماذا الناس يُقتَلون أبرياء؟، فنحن في فكرنا صوّرنا أن توفير الحماية يعني غذاء ديمقراطيتنا، ولكن تحت هذه المسمّيات لا زلنا نؤجّج صراعات دامية من أجل مصالحنا وسياساتنا المدمِّرة والبهلوانية، والتي جعلتنا رماداً لحروب بربرية، طائفية، إستغلالية، مصلحية، أنانية، تمّت في أرضنا المقدسة فدنّسنا قدسيتها، وتاجرنا بحقيقتها وكرامتها، وأصبحنا تجّاراً أشراراً نختبئ من صوت الخالق "كما في آدم" (تك 9:3)، ومن نظر الرب "كما في قائين" (تك8:4).

 

إذن، هل الحماية تعني تسميات يطلقها أصحاب القرار عن وطنيين وُلدوا أحراراً في أرضهم؟... فيوماً يقولون عنا إننا أقلية من أجل حمايتنا... وفي الليالي وظلمات الكواليس المخطَّطة نحن جالية... وتحت ذرية الحق والحقوق نحن طائفة أو طوائف... كل هذه تسميات أو مسمّيات بغيضة لا تليق بالإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله (تك 27:2)... إنها تسميات من صنع الإنسان الحاقد والمحتَل لإرادة البريء والضعيف والمسالم... إنها تسميات وُضعت تحت قانون مصلحي للحماية ولتوفيرها من زمن العصمليّة وحتى الساعة، وإنْ كانت اليوم بظروف غير التي سبقتها... بينما الحقيقة نحن أبناء وطن، مهما كان إنتسابنا، ومهما كانت شريعتنا، ومهما كانت طريقة عبادتنا ومسيرة إيماننا ورموز مرجعياتنا... فالوطن تربة أبنائه ومُلكهم، وكلنا من ذرّاته جُبِلْنا، وعلى أرضه وُضِعْنا... لذا تحت كنف حمايته وُجِبْنا، وكفى ترويج مثل هذه التسميات بأية حجة كانت، لا في فاعلها ولا في مفعولها. فنحن فعل ولسنا أشباه أفعال، ونحن مواطنون، وتلك حقيقة ولا أصدق.

 

والكنيسة اليوم مدعوّة لتحمل رسالة الإنجيل في خدمة الإنسانية، وتاريخنا لا تكتبه الأحداث من الخارج فحسب، ولكن يُكتَب قبل كل شيء من الداخل... إنه تاريخ الضمائر البشرية، التي إمّا أن تنتصر وإمّا أن تندحر... ولكن أتساءل أو أسأل: هل اليوم هناك ضمائر حية تمجّد الله في نظرتها، أم هناك ضمائر سياسةٍ حصيلةِ أنانيةِ الفرد، لا تحب التعايش مع الآخر ويقولونها جهراً وكأنهم آلهة يستكبرون بقولها، وما إدّعاؤهم هذا إلا باطل، وما هم إلا ضالّون في زنكة الزمن، ومَن يستمع إليهم يشترك معهم في خطيئتهم ضد روح الله المحب؟.

 

فالمسيحية دون الآخر ديانة كبرياء واستكبار، لأنَّ المسيحَ ربَّنا إنحدر من السماء وأخذ صورة عبد وجسداً مثلنا (يو14:1) ليحيينا وينقلنا إلى حيث هو... إنّ ذلك لأسمى حماية!... واليوم هناك مَن يفتخر حينما يقول:لا أستطيع العيش مع الآخر، فنعمة الخليقة إعلان لبشارة الآخر "إذهبوا وعلّموهم" (متى 20:28). وهذا ما يدعونا إلى أن نكون خبراء في الشؤون الإنسانية، وأن لا نغلق قلبنا على أحد، ولنجعل من كل إنسان أخاً لنا... فمسيحنا يدعونا إلى الإنفتاح والغفران من أجل أن نفهم قلب الإنسان المعاصر فهماً محكماً كي لا تكبر مأساتنا، فنرى الملحَ يَفسَد والنورَ ينطفئ، والمسيحييين تائهين دون رجاء حقيقي ولا أمل في الحياة، وهم الذين أثبتوا خلال مسيرة التاريخ إننا متمسكين بتربتنا، ونحن شعب بنى هذا الوطن من شماله إلى جنوبه، وأثّرنا وتأثيرنا واضح ولا يمكن إزالته مهما كانت الصعاب... فنحن حتى الساعة ندفع ثمن إنتمائنا من دمائنا... من عرق جبيننا... ولا تهون علينا دماؤنا إقتداءً بالمسيح الذي فدانا... وهناك سؤال يطرح نفسه: لماذا كل هذا الحقد الأعمى تجاه شعب مؤمن كل ذنبه أنه مسيحي؟... لماذا يجب على المسيحيين وحدهم أن يدفعوا ثمن حروب الآخرين على أرضهم من دماء أجسادهم الطاهرة؟... أإنّ ذلك لحماية مثالية ؟... فنقولها: إن الحماية وتوفيرها لا تكون عبر الألسن والبيانات والرحيل، بل عبر الأفعال... فلا يمكن أن تنتهي حضارة عمرها مئات آلاف السنين مهما كان العنف والإضطهاد مخيفاً، كون الحق لا يموت مهما علت الأصوات الزائلة من أجل ضياعه ودفنه، ففي ذلك هم يدفنون حقيقة الله "قولوا الحق والحق يحرركم" (يو17:17)... ثم يقولون "توفير الحماية"... إذا كانت غايتهم ثقافة النفاق والإنغلاق ، وحضارة الكذب والرياء ، وموسوعة قتل الأخر بأساليب مختلفة وإن كانوا أبرياء ، ونفي الآخر وعدائه، فأية حماية ننادي بها، وأي عيش مشترك هذا؟... فلا يمكن أن تكون بغداد، بل أن يكون العراق، من دون مسيحييه وكنائسه. وتعايش المسلمين والمسيحيين واليهود في قلب بغداد ولمئات السنين علامة يفتخر بها وادينا الرافديني، ولا يجوز أن يعتبر حزب أو شخص ذو نفوذ إنه هو القاضي والمنفّذ والمطلق من الله، فذلك ذهنية إرهابية تؤدي بنا إلى الهلاك، وليس في ذلك أية نظرة إنسانية، فالمسؤول مسؤول عن كل أبناء الوطن والدولة أيضاً، بل واجب عليها أن تحافظ على سلامة كل ابنائها وليس شريحة منها، وهذا ما يكفله الدستور العادل وليس المصلحي الذي يصوغ الشعب بنوده وأبوابه وليس الغريب مهما كان شأناً أو رفعة أو منزلة... فنحن لا نعيش في العراق، بل العراق يعيش فينا.

 

إذن الضمانة للوجود المسيحي في بلدي هي الدولة، فإذا كانت الدولة عادلة، تحمل القانون ميزاناً يحتمي المسيحيون بسلطته ولا خيار لهم سوى ذلك. والتزام الدولة بالديمقراطية الحقة وليس المزيَّفة، وبحقوق الإنسان في إطار حكم مدني، راسماً خطاً فاصلاً كون الدين لله والدولة في خدمة المجتمع، والوطن لجميع أبنائه. حين ذاك تكون حماية المسيحيين وحماية مصالحهم وحرياتهم مرتبطة بصاحب السلطة والقرار في الدولة، وبكفالة أمينة من الدستور العادل والمنصف. وإلا لن تكون لنا حماية، بل تلك نهاية لبداية أرادوها، ولنهاية خططوا لها وحسب مآربهم ليس إلا.

 

ها قد حان الوقت ليتحمل المسؤولون مسؤولياتهم، ويحاسبوا ويعاقبوا كل مخطط أو منفذ لأعمال إجرامية أو تهجيرية ، غايتها ، تدمير البريء من أجل مآرب انانية ظالمة ،  وإفراغ العراق والشرق كله من مسيحييه، كذلك ليكن الاخوة أبناء الشرق العربي المسلم وفياً  لمسؤوليتة العربية والدولية في مجال الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي، ليس فقط من أجل عقد إجتماعات طارئة، فيحضنوا أولادنا في سجلاتهم، بل ليعملوا جاهدين بأن الوجود المسيحي في الوطن العربي بشكل عام والعراق بشكل خاص هو ضرورة إسلامية عربية قبل أن تكون ضرورة مسيحية، ولا يجوز خسارة المنطقة لهذا العنصر المسيحي، فذلك ما هو إلا كارثة... وحينما تنجلي الأمور بهذا الشكل الإنساني والمسؤولي، سنجد دماءنا تستصرخ إلينا أن لا نترك أرضنا، وأن نثبت فيها. وكي لا تذهب دماء أبريائنا هدراً، ولا تدعنا الحالة أن نستشهد مرتين. وعملاً بكلام قداسة البابا بندكتس السادس عشر الذي يدعونا إلى مواجهة الحدث بقوة وصلابة الإيمان، والبقاء في أرضنا... فلنعمل من أجل الحقيقة وإحقاقها، ومن أجل الحقيقة وإعلانها، ولنكشف المضلّين الذين يتراءون بثياب حملان وهم ذئاب خاطفة (متى 15:7)، فهم مفترسو الأبرياء ويدّعون أن ضمائرهم في راحة بال.

 

فالرب يسوع أعطانا المثال، ونحن على دربه سائرون... ولنعلم أنه مهما طال الليل لابدّ لفجر الأمل أن يشرق من جديد، ولا يمكن للكذب والرياء ولظلام الترهيب والتكفير والتهجير المنظم أن يطول لأن فجر الحقيقة آتٍ... وسيبقى إيماننا المسيحي بالرب يسوع حامينا، وهو سيفنا والحق صولجاننا، ومَن يملك السيف والصولجان لن ينكسر ولن يخاف مهما عصفت الرياح العاتية في وجهه.فلتتكاتف القلوب قبل الأيادي ولنعلن حقيقة وجودنا وأحقية عيشنا عبر دستور منصف وعادل ، لأنّ الدستور وُضع من أجل أبناء الوطن ليس إلا . ولنتمسك بحبال الله العلي العظيم الذي أحبنا حتى النهاية ولنقل مع المزمّر بكل الايمان " الهي صخرتي وبه أحتمي"( مز 2:18) " إنها غيرة إيمانية نعم ، وأمين  " .