السياسية والثقة بالعقل

 

 

 

                                         

                                          يوسف زرا

       دأبت الاطراف السياسية ذات التوجه الديني والقومي المتنفذة والماسكة بزمام السلطة في كل من الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة اقليم كردستان في اربيل باطلاق التصريحات المتشنجة حول ما مختلف عليه بخصوص المادة ( 140 ) والخاصة بمنطقة كركوك وباقي المناطق المتنازع عليها ضمن محافظات كل من نينوى وصلاح الدين وديالى.

     مما ادى الى تسارع الطرفين الى تحريك القطعات العسكرية باتجاه تلك المناطق, وكأن الامر وصل بانقطاع السبل السلمية بينهما ولابد من اشعال فتيل الحرب وبدء الصراع الدموي بين الطرفين، وانهما على استعداد لدخول هذا المعترك الخطير ولا رأي للشعبين العربي والكردي وباقي المكونات للمجتمع العراقي بذلك.

        في حين نرى وبمعرفة جميع المسؤولين في الموقعين، ان هناك في الداخل والخارج عدو تاريخي مشترك لهما ولكل الشعب العراقي، ويبذل في الخفاء والجهر كل الجهود لتصعيد الموقف حد الاصطدام المسلح بينهما، والكل يعلم ان عقلية النظام السابق والتطرف القومي الذي مارسه لعقود عديدة ماذا حل بكل الشعب والوطن ومن جراء الحروب التي شنها على الشعب الكردي وتضيق الخناق على مجمل القوى الوطنية التقدمية والديمقراطية حد إبادتها .

    ولكن يجب على الكل التفكير بجد وتدارك الأمر من أن أوار الحرب الداخلية في سوريا كاد لا بل اوشك أن يمتد لهيبها الى داخل الوطن ليحرق الكل معاً .

    فهل فقد مسؤولو الطرفين التوازن ولا سيما الحكومة الاتحادية باعتبارها حكومة لكل الشعب العراقي وليس لجهة اكثرية او اقلية سواء كانت دينية او قومية ؟ ام اصبح الوضع على كف عفريت كما يقال وغاب العقل السديد في الاسراع لنبذ التصعيد والكف عن الاعلام الاستفزازي والمتشنج من قبل الطرفين ، والشعور بالمسؤولية التاريخية والعودة الى الهدوء و ضبط النفس ولا بد من تحكم العقل بذلك .

     واذا عدنا الى بعض اقوال عظماء التاريخ وفلاسفتها ومنهم اسبينوزا ، والذي يقول ومن عدة قرون ، ان ( الثقة بالعقل ) تعدت كل الافاق والتصورات ليتجاوز هو نفسه الصراع على مبدأ الحق . وهو الذي اعطى الاستقلالية الذاتية وحرر الانسان من الفكر الفلسفي الذي كان سائداً في اوربا في القرون الوسطى . ونحن الان في الالف الثالث الميلادي ‼! .

    بمعنى اصبح العقل هو المتحكم بالانسان في كافة مجلات حياته ومنظم سلوكه وتصرفاته الاجتماعية والعقائدية . واعتبر كل ما هو خاضع للعواطف يمثل خواص للطبيعة البشرية غير الموزونة وسلبية في نتائجها .

    ولما كان العقل هو مصدر التفكير ونتاجه ، بمعنى لا يجوز تهميشه او اقصائه مهما كان ولاي جماعة يكون ، لأن كل فئة أو شريحة اجتماعية أو طبقية ، أتنية وقومية أو دينية ، لها خصائص ذاتية وأليات لتوزيعها وتعميمها حسب الحاجة الاساسية للحياة اليومية ومتطلباتها المستمرة وهي شرعية بحكم قانون الحياة على أن لا تتقاطع مع شرعية غيرها .

     واذا كانت السياسة هي احدى الوسائل الشائعة وكمحور مهم يتبنى ايصال قضية معينة او مجموعة قضايا تخص واقع الحالة الاجتماعية والاقتصادية والادارية وغيرها الى اوسع قطاع من تلك الشرائع وفق منهج محرر مسبقاً ، قد يفي بالحاجة الماسة لمقومات تلك الشرائع ، أو وفق اديولوجيا خاصة تصلح للتغير السلمي المستمر للواقع الاجتماعي المتلكئ أو المتعثر ، أو بسبب الركود والجمود الذي اصاب مرافق الحياة العامة ، ويطرح سبل المعالجة الدائمية لمجمل ما ورد في لوحة التغيير وغيرها من النزاعات الداخلية مهما كانت مستعصية .

    ولما كان المجتمع التقدمي قد توصل عبر التراكم الكمي لتجاربه ، فلا بد هنا من سؤال . عن كيفية معالجة ما يعيق سبل التقدم والتحكم بالمستعصيات ، تجنباً للعواصف والاعاصير التي لا يمكن لأحد من صدها أو الوقوف بوجهها .

    فإن الاضطراب الأمني والأرهاب اليومي المنظم الذي يعصف في كل بقعة من جغرافية العراق ولم تتمكن الاجهزة المختصة معالجتها أو الحد منها ، إضافةً الى ما يفرزه هذا الإضطراب من رمي يومياً بمئات الالاف من الشبان في سوق البطالة المروعة وإنعدام ابسط المقومات المادية للعائلة .

    فلا بد من حدوث الزوابع هنا وانفجار براكين هناك ، وهبوب رياح عاتية كالتي في وسط المحيط بما لا تشتهي السفن .

      ولا بد للربان أن يبذل المستحيل على التحكم عقليا بمقود أو سكان المركب وهو في وسط هذه الفوضى والهيجان . ويقوده الى شاطئ السلام . وكفى ابتكار الازمات وتصعيد الصراعات ولا طائل من ورائها ، وإلا فالمصير المجهول للمركب وبمن فيه وربانه يصيب الكل . وهناك ما يبرر هذه الحالة من الاضطراب الشامل للمنطقة الشرق اوسطية عامةً والعربية خاصةً من المؤثرات الداخلية والخارجية ، والنظر الى ما آل إليه لما يسمى بالربيع العربي ، والذي كانت أولى نتائجه المدمرة في اولى انطلاقته من شمال افريقيا ، بدأً بتونس وخلع الغطاء القديم واحتل محله اقبح منه . وثم ليبيا ويمن واخيرا مصر والكل يترقب وحذر لما يغلي بداخل مجتمعه ، عدا حالة الحرب المهلكة ومنذ ما يقارب العامين في سوريا وما آل اليه شعبها حد الانهيار انتهاءً بالدولة الفاشلة مستقبلاً كما هو متوقع .

     وليس العراق خارج وبعيدا من هذا الدوار ، فمنذ سقوط النظام السابق في 9/4/2003 والى هذا اليوم يعيش شعبه في وسط هذا الربيع المتقدم زمناً والهائج بلا توقف .

     فيا ترى هلا تعود قيادة قوافل هذا المجتمع ذات الاتجاهات السياسية والاجتماعية والدينية المتباينة .. نعم وتطلق العقل السليم من عقاله وتثق به كل الثقة كما قال اسبينوزا ، ليقرر ما ينفع أو ما يضر المجتمع بكل مكوناته المتعددة ، والذي ذاق الامرين طيلة العقود الخمسة المنصرمة من تقديم الضحايا بلا حساب وبلا تعداد . ناشداً الاستقرار الامني والازدهار الاقتصادي للكل ، وفي ظل دستور وخيمة ديمقراطية ونظام  يقر بالعدالة الاجتماعية وبتعدد المكونات السياسية والاجتماعية واحقيتها في تقرير المصير والحياة الكريمة والأمن الدائم .

     و إلا فلا صراخ ونداء الف اسبينوزا وغيره يفيد ما لم يتم العودة الى الثقة بالعقل لحسم الامور للصالح العام ولا غير ذلك .