|
حميد أبو عيسى ... بين الهندسة و الأدب |
|
|
جودت هوشيار
ثروة العراق الحقيقية ، لا تكمن فى النفط أو الزراعة أو الصناعة أو أى مصدر آخر من مصادر الثراء ، بل فى العقول العراقية المبدعة ، التى يمكن أن تبنى – لو أتيح لها المجال - بلدا قويا و متقدما ، كما تكمن فى الأبداع الفنى العراقى – بالمعنى الشامل لكلمة الفن - التى تضفى جمالا و معنى على حياة العراقيات و العراقيين .و لكن مع تسلط زمر الجهل و التخلف على مقدرات العراق ، نفقد كل يوم مبدعا فذا فى مجالات العلم و التكنولوجيا و الأدب و الفن بعضهم يقتل برصاص الغدر أو بالكواتم فى شوارع مدن العراق أو فى بيوتهم أو يقضى نحبه فى سجون النظام القمعى الفاسد .أو يموت قهرا و كمدا فى المنافى .مناسبة هذا الحديث هو رحيل مبدع عراقى آخر فى المهجر ، و فى الولايات المتحدة الأميركية تحديدا و هو الصديق المهندس الفذ حميد عيسى أوراها . هكذا عرفته لسنوات طويلة *، حيث عملنا معا و مع مهندسين آخرين فى أواخر الستينات من القرن الماضى لوضع اللبنات الأولى للصناعة الثقيلة فى العراق .كان ما يجمعنا ليس الهندسة فقط التى درسناها و عشقناها عشقا ، يبدو اليوم غريبا . بل صداقة عميقة الجذور ، لحمتها و سداها ، الأهتمامات الهندسية و الثقافية المشتركة . البارزين لموقع ( الحوار المتدن ) حيث نشر عشرات القصائد العاطفية و الوجدانية و السياسية . عملنا معا خلال تنصيب الخطوط الأنتاجية و معدات المنشأة العامة للصناعات الميكانيكية فى الأسكندرية ، مهد الصناعة الثقيلة فى العراق ، التى تخرج فيها مهندسون بارزون ، تولوا فيما بعد مسؤوليات هندسية كبيرة و كان الراحل واحدا منهم . فى الأسكندرية كنا نتبارى – خلال تنصيب المشروع – من ينجز أعلى نسبة من الخطة الشهرية المقررة . كنا فى عنفوان الشباب ،نعمل مع الخبراء الروس و يملأنا الأيمان بأننا نبنى عراقا متطورا علميا و صناعيا ، لا نعرف الكلل او الملل فى أكتساب خبرة جديدة مع كل يوم كان الراحل حميد عيسى اوراها و المهندس فاروق صفو ، هما المؤسسان الحقيقيان لقسم التصاميم و التكنولوجيا فى المنشأة المذكورة ، و هو قسم أنشىء لأول مرة فى العراق ، و يعد لب أو جوهر أى صناعة ، سواء أكانت خفيفة أم ثقيلة ، لأنه من دون تطوير تصاميم المنتجات بأستمرار لا حياة لأية صناعة قائمة . وقد أصدرنا معا مجلة ( المهندس ) التى كانت تنشر البحوث الهندسية التطويرية الجادة، و سوف يأتى اليوم الذى يكتب فيه أحد الباحثين ، تأريخ الصناعة العراقية ، و لا أشك أنه سيقدر مدى أهمية أصدار مجلة هندسية رصينة بأمكانات مادية و طباعية متواضعة.و لا أجد بعد مضى حوالى أربعة عقود من الزمن ، مجلة مماثلة فى مجال الصناعات الهندسية فى عراق اليوم و فى عام 1980 أنتقل الراحل الكبير الى المعهد المتخصص للصنات الهندسية ، رئيسا لقسم التصاميم و فى الوقت ذاته رئيسا لقسم البحوث و التطوير و كالة ، و خلال عمله الدؤوب ، ألف عدة كتب هندسية ، تعد رائدة فى مجالات الصناعات الهندسية . و لكن النظام الصدامى المباد شأنه فى ذلك شأن النظام القمعى الرجعى القائم فى عراق اللصوص و مزورى الشهادات ، كان يضيق الخناق على المبدعين المستقلين ، حيث قتل غدرا و بكل خسة ثلاثة من أشقاء الفقيد ، و كانوا مبدعين كل فى مجال تخصصه.فى 1993 كان الفقيد يبلغ من العمر خمسين عاما، حين احيل على التقاعد بناءا على طلبه، و أفتتح مكتبا هندسيا للتصاميم فى بغداد ، و لكن الأحداث العاصفة التى مر بها و أستشهاد أشقائه ،و أحساسه بالخطر المحدق به أضطرته الى الهجرة الى الولايات المتحدة الأميركية ، حيث عمل أستاذا للغة العربية فى احدى جامعاتها .و لم تكن الهندسة فقط هى التى تجمعنا ، بل كان لكلينا أهتمامات جادة و معمقة بالأدب و الفن . نتحاورحولهما فى لقاءتنا الكثيرة . كان الراحل أحد الكتاب و فى المهجر كان قلبه الكبير ينزف دما على ما آلت اليه الأمور فى بلده ، و من يقرأ قصائده المنشورة بعد تسلط ( العراقيين الجدد ) على رقاب العراقيين ، نراه يدعو بكل ما أوتى من قوة التعبير لكنس الحثالات الحاكمة الى مزبلة التأريخ . يقول الشاعر المهندس فى قصيدته ( نداء الرافدين ) : كفانا بكاء ً وصبرا ًعقيما ً، كسيرَ الجناح ِ كفانا انتظارا ً لنصر ٍ سيأتي بغير الكفاح ِ! زمانُ النهوض ِ أتانا بخطـو ٍ شديد ِ اللحاح ِ وصوتُ اليتامى ينادي الرجالَ لكبح الجماح ِ كـفانا رضـوخا ً لعقل ٍ سفيه ٍ ، لقيط ِ اللقاح ِ! عراقُ النهار ِسيبقى وضيئا ً بومض ِالسلاح ِ ويعلو عزيزا ً، زهيَّ المروج ِ، أمين َالبطاح ِ سيبقى معافا ً، غزيرَ العطاءِ ، عزيزَ الفلاح ِ و يقول فى قصيدة له بعنوان ( سلاماً تونسَ الخضراءْ ) إرفعْ صراخَكَ حـدَّ أبوابِ السماءِ ولـقـِّـنِ الحكّامَ بيّاعي الـمذلـَّةِ والشـقاءِ
درسـاً مريراً كالـذي أهـدتهُ تونسُ
لـلطـغاةِ الناهـبـيـنَ بلا حياءِ أننى اعندما أقرأ قصائده التى كتبها فى المهجر ، يخيل الى أن العراق الذى أعطاه عصارة فكره الهندسى ، كان لا يفارقه أبدا ، فمعاناة العراقيين تشغل فكره و وجدانه و تعصر قلبه من الألم الممض ، يحس بها و تهز كيانه فى كل لحظة . يقول فى قصيدة له بعنوان ( أينَ أحرارُ العراقِ؟! ) آهِ كـمْ حـلَّ الظـلامُ فـي بـلادي ** واستحالَ العـيشُ ؛ خـبزاً ومسـرَّةْ كـلَّ ما يبغـيـهِ شعبي في الحياةِ **** أنْ يـعـيـشَ الـيـومَ مـأمـوناً وحـرّأ أيـن أنـتـمْ يـا أبـاةَ الـرافــديــنِ **** مِـنْ بغاةٍ قـد أذاقـوا الشـعـبَ مرّا؟! أيـن أنـتـمْ يـا أجـاويـدَ الـعـراقِ ****مِنْ لصوصٍ سرقواالخيراتِ طرّا؟! هكذا الحياة الفانية ، يشقى فيها المبدعون و يتنعم بمباهجها من لا يستحق الحياة من شذاذ الآفاق . أيها الراحل العزيز سلاما و ألف رحمة لروحك الطاهرة و سوف تبقى ذكراك العطرة فى قلوبنا و قلوب كل المخلصين فى بلدنا العظيم ، رغم أنف الطغاة الصغار من ( العراقيين الجدد )
|
|