نينوى وبقاياها

 

                          

   

الفصل الثامن من كتاب /  نينوى وبقاياها

                                                                         

                                               

                                                                                        

                                                                       ترجمة: يوآرش هيدو

 

 للعالم الاثري الانكليزي الشهير  - أوستن هنري لايارد

                    نبذة عن المؤلف

        عاش أوستن هنري لايارد في القرن التاسع عشر (1817-1894). وأستحوذت عليه منذ صباه فكرة زيارة الشرق الذي آسره بسحره. وأفتتن ببلاد سميراميس  والجنائن المعلقة.  لقب بـ (أبو الآشوريات) لأنه كان من أوائل المنقبين عن آثار الآشوريين، ولأن ما أنجزه في هذا الحقل كان ذا أهمية عظيمة.

خلال فترة تنقيبه في نينوى ونمرود (كالح) يحدثنا في الفصل السابع من كتابه عن زيارته لمناطق سكنى الآشوريين في هكّاري مروراً  ببرواري  بالا.  وشاهد آثار الدمار الهائل الذي سببه (بدر خان بك) بقراهم.  وفي الفصل الثامن يحدثنا بإيجاز عن كنيسة المشرق وهو ما نقرأه الآن.                                                                           

           لم يعنون المؤلف فصول كتابه ((Nineveh and Its Remains وفي أكثر من مكان يؤكد المؤلف أن النساطرة (أتباع كنيسة المشرق)، والكلدان الكاثوليك الذين إنشقوا عن هذه الكنيسة، والمسيحيين اليعاقبة هم أحفاد الآشوريين.  إلا أن ما يدعو للاستغراب حقاً هو أن المؤلف يسمي النساطرة (كلداناً) في كل مكان من الكتاب، ويسمى لغتهم أحياناً كلدانية.  وللتمييز بين الآشوريين الذين ظلوا مخلصين لكنيستهم الأصلية، وبين أولئك الذين أتحدوا مع روما في أواسط القرن السادس عشر، يستعمل (لايارد) تسميتي (الكلدان النساطرة) و (الكلدان الكاثوليك)، علماً أن النساطرة لم يستعملوا هذه التسمية أي (الكلدان النساطرة) قط في إعتقادنا.  ولكي لا يلتبس الامر على القارئ الكريم، فقد إستعملنا لفظة (الآشوريين) بدلاً من لفظة (الكلدان)التي لا مبرر لاستخدامها عند الحديث عن  النساطرة أو حتى عن الكلدان الكاثوليك طالما أن  المؤلف يقر بوضوح تام أن أتباع كنيسة المشرق هم سليلو الآشوريين كما ورد في هذا الفصل وفي أماكن أخرى من كتابه.  (أنظر ص 85، 190، 191).        

                                                                                      "المترجم"

(نص ما جاء في الفصل الثامن من كتاب لايارد: طبعة 1970، منقحة من قبل( H. W. F. Saggs)

  إن حديثنا عن القبائل الآشورية أو النسطورية في الفصل السابق، ربما يكون قد جعل القارئ تواقاً لمعرفة شئ عن الأسباب التي أدت إلى إنعزال جماعة مسيحية صغيرة في المناطق الجبلية النائية من كردستان.

   في القرون الأولى لعصر المسيحية، كانت سهول آشور الأصلية ما تزال ساحة قتال بين أمم الشرق والغرب.  كانت تعاليم المسيحية قد تغلغلت منذ وقت مبكر في المقاطعات الآشورية.  وربما حمل تلك التعاليم إلى هناك أولئك الذين كانوا قد تشربوا بها من منبعها.

   في مطلع القرن الخامس الميلادي، حينما نشب الخلاف بين (قورلس) "بطريرك الاسكندرية" و(نسطوريوس) "بطريرك القسطنطينية"، كانت الكنيسة الآشورية آنذاك قد ترسخت كواحدة من أكثر الطوائف الشرقية إنتشاراً. وقد أعلن (مار باوَي) جاثليق ساليق (498-503) جهاراً تأييده للتعاليم المرتبطة باسم "نسطوريوس".  ويمكن أن نعتبر تسنّم هذا الجاثليق منصبه تاريخاً لقيام وتوطد الكنيسة النسطورية(1)  في الشرق ونشرتعاليمها بين أمم آسيا الوسطى.

       وحتى قيام وتوطد السيادة العربية في الأقاليم الواقعة شرقي دجلة ، كان الآشوريون يتعرضون بالتعاقب إلى الإضطهاد أو الحماية طبقاً للقوة النسبية لهذا الطرف أوذاك. لقد عمل الآشوريون على نحو مواظب ودون كلل على نشر تعاليمهم في طول قارة آسيا وعرضها، حتى قيل أن أحد ملوك فارس كان من بين مهتديهم(2).

  من بلاد فارس(3)  حيث أسست أبرشياتهم مبكراً، أنطلقت بعثاتهم التبشيرية نحو  الشرق.  وفي الحوليات القديمة للكنيسة الآشورية، روايات مألوفة عن المبشرين الذين أرسلوا بأمر من بطاركة كنيسة المشرق إلى منغوليا والصين وبيانات حول نجاحهم ومصيرهم.

   في زمن الفتح العربي كانت العلوم في الشرق ما تزال بالدرجة الأولى في حوزة الآشوريين.  ونحن مدينون للآشوريين باحتفاظهم بأجزاء ثمينة عديدة من العلوم الاغريقية، كما فعل الاغريق، قروناً قبل ذلك، بالنسبة لأجداد الآشوريين إذ حفظوا سجلات علم الفلك وعناصر العلوم الشرقية.

   في المدارس الشهيرة (أديسا) ، (الرها: أورهاي)، (نصيبين) و (ساليق)، كانت تدرس (الكلدانية والسريانية)(4)  إلى جانب الاغريقية.  وكان هناك أساتذة لعلوم النحو والبلاغة، الشعر والمنطق، والحساب والهندسة، الموسيقى وعلم الفلك والطب.  وكانت البحوث تحفظ في مكتبات عامة.

  إن مؤلفات الأطباء الاغريق وفلاسفتهم كانت في حقبة مبكرة قد ترجمت إلى الكلدانية.  لقد أثارت هذه المؤلفات فضول الخلفاء الذين كانوا آنذك مشجعين ورعاة العلوم، وبأوامر منهم ترجمت هذه المؤلفات من قبل الآشوريين النساطرة إلى اللغة العربية. 

   بعد سقوط الدولة العربية ، ضعفت باطراد سلطة بطريرك المشرق.  عانت الطائفة من إضطهاد الحكام المغول وتعين عليها أن تناضل ضد خصم أشد هولاً تجسد في المبشرين الكاثوليك الذين شرعوا ينتشرون في طول آسيا وعرضها. لكن تحولهم إلى قلة من الهائمين على وجوههم في أقاليم آشور، يجب أن يعزى إلى تيمورلنك السفاح.

   لقد عزم هذا الجزار الذي لم يكن يعرف للشفقة معنى أن يستأصل شأفتهم وأن يبيدهم عن بكرة أبيهم.  لقد طاردهم بعزم لا يلين وضراوة لا مثيل لها، ودمّر كنائسهم وأحرق أديرتهم وقطع بحد السيف أعناق جميع أولئك الذين لم يحالفهم الحظ في الهرب إلى المعاقل الجبلية التي يصعب الوصول إليها.

    إن أولئك الذين قصدوا آنئذ مرتفعات وأودية كردستان، كانوا سليلي الآشوريين القدامى وبقية إحدى أقدم الطوائف المسيحية.  من عام (1413) قلما نجد أي ذكر في السجلات الآشورية لوجود الكنيسة النسطورية فيما وراء تخوم كردستان. إن قلة من الآشوريين الذين يقطنون مدن وقرى السهول، تعرضوا لا لطغيان الحكومة التركية فحسب، بل لمكائد مبعوثي البابوية، ولم يتمكنوا من الصمود طويلاً.

    فقط أولئك الذين وجدوا ملجأ في كردستان ، وعلى ضفاف بحيرة أورميا في بلاد فارس، ظلوا مخلصين لكنيستهم ومعتقدهم.  لقد تمتع الأولون بنوع من الاستقلال الجزئي وكانوا يتباهون بان أي غاز لم يتوغل إلى أوديتهم المنعزلة. وبالرغم من أنهم اعترفوا بسيادة السلطان بدفعهم جزية سنوية، لم يرسل حاكم إلى مقاطعاتهم، ولم يمارس أي حاكم تركي أو زعيم كردي أية سلطة في قراهم ، حتى الغزو البربري الذي قام به بدر خان بك والمذابح الرهيبة التي إقترفها بحقهم.

   ففي جبال كردستان، وفي القرى المتناثرة في سهل أورميا فقط، يمكن أن نعثر على بقية لهذه الطائفة التي كانت يوما من أوسع الطوائف إنتشاراً، اللهم إلا إذا كان أحفاد أولئك الذين إهتدوا على أيديهم، لا يزالون يحتفظون بعقيدتهم في بعض المقاطعات النائية من الامبراطورية الصينية.

  ينتخب بطريرك الكنيسة الآشورية النسطورية دائماً، إن لم يكن ذلك بحكم الضرورة، فعلى الأقل بالاتفاق العام ، من أسرة واحدة.  ويتوجب على الأم أن تمتنع عن تناول اللحم أو أي طعام حيواني خلال فترة الحمل أو لعدد من الأشهر قبل ولادة الطفل المنذور، البطريرك العتيد لكنيسة المشرق.  كما أن البطريرك نفسه لا يتذوق اللحم أبداً.  فالخضر والحليب تشكل طعامه الوحيد.  ويجب أن تتم رسامته على يد ثلاثة من رؤساء الأساقفة ، ويحمل دوما أسم (شمعون)، بينما يتخذ صنوه، بطريرك الآشوريين الكاثوليك، بالمقابل، إسم (يوسف)(5) .  إن لغة الآشوريين لهجة سامية تجمعها خصائص معينة مع العربية والعبرية والسريانية وما تزال حتى يومنا هذا تسمى كلدانية (6).

   معظم كتبهم الكنسية مكتوبة بالسريانية، التي شأنها شأن اللاتينية في الغرب، غدت اللغة المقدسة في الجزء الأعظم من  الشرق.  تختلف اللهجة التي يتكلمها سكان الجبال قليلاً عن تلك التي يلهج بها سكان السهول.

  في الآونة الأخيرة بدأ البروتستانت يهتمون كثيراً بالآشوريين.  فقد أنشأ مبشروهم مدارس في أورميا وحولها، وأسست مطبعة وطبع العديد من الكتب، من ضمنها الكتب المقدسة باللهجة الدارجة.  وكانت جهود هؤلاء المبشرين مثمرة في إعتقادي. 

  (1) اطلقت هذه التسمية (النسطورية) على كنيسة المشرق من قبل مؤتمري "مجمع أفسس" المنعقد عام     431م ،  بعد أن رفضت الكنيسة تحريم القديس (نسطوريوس) بطريرك القسطنطينية وذلك لكون تعاليمه مطابقة لتعاليم كنيسة المشرق.  علماً أن نسطوريوس لم يكن آشورياً  وإن كنيسة المشرق أسست قروناً قبل مولده.

(2)    ليس في حوليات كنيسة المشرق ما يثبت ذلك. إلا أن من المعروف أن أحد بطاركة كنيسة المشرق الآشورية كان  صينياً وهو مار يهبالاها الثالث الملقب بـ "ܒܲܪܛܘܼܪ̈ܟܵܝܹܐ" ، أي إبن الاتراك (1281- 1315 )

(3)    من  المعروف أن بلاد ما بين  النهرين كانت المهد الذي نشأت وترعرعت فيه كنيسة المشرق. إن المؤلف أستخدم هذه العبارة (بلاد فارس) لان الفرس المحتلين كانوا قد جعلوا عاصمتهم المدائن القريبة من بغداد.

(4)    من المستغرب أن يتكلم عالم آثار كبير عن (الكلدانية والسريانية) وكأنهما لغتان. في حين أنهما تسميتان للغة واحدة كما هو معروف وهي اللغة التي كانت تحكى في نينوى وبابل.

(5)    يست ملاحظة المؤلف دقيقة تماماً فيما يخص تسمية بطاركة (الآشوريين الكاثوليك).  أما فيما يخص كنيسة المشرق، فقد حمل هذا الاسم (23) بطريركاً من أسرة واحدة .  وأستمر هذا التقليد الوراثي حتى عام 1976.

(6)    من  المعروف أن أصحاب هذه اللغة لا يسمون لغتهم كلدانية أو (كلدية) Chaldee كما يسميها لايارد ، بل

(     (    سورث ܤܘܼܪܬܼ ) التي هي تصحيف  لـ(ܤܘܼܪܝܵܐܝܼܬ) ، أي السريانية.

                                                                           "المترجم"