أرض
الوهـــــم
نبيل شانو
ينظر
إليها من بعيد فتخطف الأبصار ، ضياؤها يشق ظلمة الليل وكأنه يطعنه طعنات
نجلاء ، صمتها يثير حفيظة الفضوليين ، فآثروا الفضة على ذهب سكوتها ، يمر
بها نهر أو أكثر يزيد منظرها بهاءً ورونقاً وموجات مائها تتكسر عليه أشعة
الضياء ، فللتو تستمع إلى لحن حزين جميل صامت ، فيها من الثروات قدراً
ومقداراً ما يجعلك غنياً لمجرد تخيلك لها ، تجتذب البعيد كما القريب ، الكل
سائرون نحوها تسوقهم فكرة دخولها والاستمتاع بجمالها وغناها ، فهي الجنة
على الأرض ؛ ولكن ما الذي يحصل .. هناك من يهرب منها .. يحثون الخطى مسرعين
لا ينظرون خلفهم وكأنهم يريدون الخلاص من " جاذبيتها " أو لعلهم تذكروا
مصير زوجة النبي أيوب عندما اشتاقت لنظرة أخيرة إلى مدينة أهلها ! ،
معتوهين .. بالتأكيد ذلك ما هم عليه ، فبعض الناس لا تليق بهم النعم .
عندما تقترب منها تشاهد منظراً مهيباً لأسوار عظيمة شاهقة ، تدلل
على تاريخ مجيد وتعطيك انطباعاً لما يوجد خلفها ، عندما تخترق البوابات
العظيمة تأخذك الحيرة فليس هناك من يحرسها أو ينظم مرور الداخلين إليها أو
الخارجين منها ، فالداخلين يحدوهم الأمل بحياة جديدة مترفة صاخبة ، أما
"الخارجون" فيبدون على عجلة من أمرهم وكأنهم يهربون من أمر جلل ؛ في داخلها
تبهرك الشوارع العريضة والبنايات الحديثة والحدائق الواسعة والقصور الفخمة
الموزعة على أرجائها هنا وهناك ، في منظر يؤكد انطباعك السابق حول عظمتها
وقوتها وغناها ، يمر بك الوقت سريعاً لتعود إلى الواقع لتنتبه للسائرين في
تلك الطرقات ، وعلى الرغم من أعدادهم فالصمت مخيم عليهم وكأن ما يحركهم هو
فراغ أنفسهم من هدف العيش ، يسيرون جنباً إلى جنب فلا تلتقي العيون أو حتى
القلوب ، فلولا حاجتهم إلى إشباع غريزتهم الأولى ربما ما رأيت أحد منهم
على الإطلاق ! ، الكل يسعى لضمان حاجته الخاصة غير آبه للآخرين ومصيرهم ،
لا تسمع أية ضحكة وإن وجدت لكانت ضحكة مصطنعة خالية من الصدق ؛ تحث الخطى
لاستكشاف معالم أخرى لها فتقودك قدميك إلى أحياء "بدائية" تختلف تماماً عن
سابقاتها ، بيوت نصف مهدمة ملتصقة ببعضها البعض ، أزقة ضيقة آسنة تنبعث
منها الروائح العفنة ، يسير عليها أشباه بشر ، كبار دفعوا ضريبة كبيرة من
أعمارهم ، وصغار بأجسامهم الغضة البريئة وملابسهم الرثة الممزقة بالكاد
تستر ما يجب ستره من أجسادهم ، في تلك الأزقة الضيقة تستمع لأصوات تخترق
الجدران فيتلقاها المارون دون استئذان ، صرخات أطفال جائعة تلعن صدور
أمهاتها التي فرغت من الزاد ، أو صوت شجار يائس بين رجل وامرأة في شريط
يومي " روتيني " استعداداً لحلول المساء حيث يأخذ التعب منهم مأخذه
وبالتالي الخلود للنوم بعيداً عن الأحلام الوردية المقلقة ! ، أو صوت نحيب
امرأة فقدت من تحب في غفلة منها .
في مكان غير بعيد تصل إلى مقبرة كبيرة ، وعلى الرغم من وسعها
فقد ضاقت بأصحابها ، أكوام من تراب وشواهد ، القليل منها قديم والكثير منها
حديث ، قطط وكلاب تسرح وتمرح تلبي نداء الطبيعة دون وازع من ضمير ودون
احترام لمن يرقد هناك ؛ تنتبه لصوت جموع مولولة قادمة وهي حاملة لتابوت
صغير في مشهد أصبح عادياً إلى تلك البقعة الساكنة لتودع من أحبت وقد أضناها
البكاء وأتعبها ، لتخرج بعد إتمام مهمتها وقد خالفت طبيعة الحياة والأشياء
، كبار يدفنون صغارهم ليختفي من حياتهم الأمل بالمستقبل ، فالأرض التي
يُدفن فيها الأبناء قبل آبائهم لهي أرض بور لا خير فيها ولا أمل . مع حلول
الظلام تحاول الهروب من تلك " الأزقة " فزعاً وكأنك تهرب من كابوس لتعود
إلى مكانك الأول علك تجد بقعة ضوء بعد نفق مشاهداتك السابقة ، تقترب من أحد
القصور الفارهة حيث تنطلق أصوات موسيقى صاخبة لاحتفالات أصحابها بانتصارهم
على إنسانيتهم ونزاهتهم ، تقترب منها لتجدها محمية بغيلان شرسة قادرة على
فعل كل الموبقات المعروفة وهي تحاول منع من تعرفنا إليهم سابقاً من التقرب
منها لطلب بعض الصدقات من المال أو الغذاء ، العديد منهم قد فقد إحدى أدوات
حواسه ، مادين أيديهم لأصحاب تلك القصور من محدثي النعم مذكريهم في الوقت
نفسه بأنهم هم أيضاً في يوم ما كانوا يستجدون ما يستطيعوه من غيرهم ممن
أنعمت هذه الأرض عليهم . تستمر في مسيرك عبر تلك الشوارع لتأخذ الأسئلة
بالتوارد إلى فكرك وذهنك : إن هذه الأرض هي أرض الذهب ، فلماذا يستجدي
أصحابها بهذا الشكل ؟ ، ولماذا كل ما فيها يستقبل ويرحب بالغريب والآتي من
أصقاع بعيدة ، ثم لا تلبث أن تنقلب عليه كما هي حالها دوماً مع أهلها
وناسها ؟ ، وفي برهة تنقلب الأمور رأساً على عقب ، محاولاً فهم ما يجري ،
فالإرث ثقيل جداً ما يجعلك لا تؤمن بظواهر الأشياء مهما كانت جميلة التنسيق
، فعندما تنظر إلى النهر أو الأنهار العظيمة الدائمة الجريان فيها ، إنما
تستمد حياتها وجريانها من دماء ودموع من أغراه ماؤها ، ولا زالت وستبقى ؛
وهذه الأبنية الكبيرة والشاهقة قد بنيت على آلام وفقر وعرق عشرات الأجيال ؛
أما القصور الفخمة فقد أصبحت لعنة لساكنيها
"المتعاقبين" ، وكأنما تعلن رفضها لشاغليها ، فهي تعلم علم اليقين
دواخلهم وما تضمره قلوبهم ؛ وكذلك الشوارع العريضة والحدائق الكبيرة وغيرها
من شواخص العظمة انقلبت في برهة لتثقل كاهل ناظرها .
بعد أن تقضي من الوقت زمناً كافياً لاستجلاء حقيقة هذه الأرض
تصحوا من غفوتك وتكتشف خطأ تقديرك لجمالها وعظمتها فتبحث عن الهرب ، الهرب
منها علك تحافظ على ما تبقى من إنسانيتك حيث تستجمع قواك وتبدأ محاولاتك
لمسح ذاكرتها عنك ، فتتذكر الهاربين منها عند همّك الدخول إليها فترتعد
خوفاً لأن ما تمنيته سابقاً لم يعد سوى وهماً لا أساس له في الواقع ، فتسأل
عن المخرج الذي دخلت منه مسرعاً الخطى للخروج ، وهناك ترى الداخلون وهم
يرمقونك بنظرات غريبة ، صرت تعرف مصدرها
|