حــــــــرية الإرادة والاختــــــــيار

 

                                       نبيل شانو

                  من المفترض أننا جميعاً نولــد أحراراً نملك الإرادة وحق الاختيار ؛ هذا ما يحاول العاملون في مجال حقوق الإنسان إثباته والعمل على تطبيقه ، وذلك من أجل جعل العالم مكان أفضل للعيش فيه ؛ ومن المسلم به أن الإنسان دوناً عن مخلوقات الله الأخرى قد أعطي عقلاً ميّزه بالتفكير والتخطيط ومن ثم اتخاذ القرارات المناسبة لتحديد خياراته وتحسين وضعه ، والإمكانات العقلية هنا هي مقياس لوعيه وبنائه بشقيه التحتي والفوقي ، والتي هي بالنتيجة إظهار لتلك القابلية وإمكاناتها . وموضوعة حرية الإرادة والاختيار بمفهومها العام تلعب دوراً مهماً في تشكيل شخصية الفرد لاحقاً ومجموعة الأفراد التي تتكون منها المجتمعات بصورة عامة ، وتتأثر هذه الحريات ( المشروعة منها على وجه التحديد والتي لا تؤثر سلباً على تطور المجتمع الحضاري ) بمجمل عوامل وظروف بعضها ثابت والآخر طارئ تكون على تماس مباشر خلال مسيرة الحياة الطويلة للفرد والمجتمع في آن ، حيث تنعشها أو تحد منها وفي بعض الأحيان تصيبها في مقتل ، ومن هذه العوامل والظروف : الجســدية و الإمكانية الاقتصادية و الاستقرار الأمني و الواقع السياسي ؛ عليه فأن حرية الإرادة تتناسب طردياً مع هذه العوامل في حال توفرها بواقع إيجابي في حياتنا ، وهذا ما يمكن أن يساعد في حرية الاختيار للوصول إلى الأهداف المرجوة .

          ففيما يتعلق بالعامل الجسدي يمر الفرد بمراحل من حياته يكون خلالها مقيداً أو مهمشاً غير قادر على اتخاذ قراراته بنفسه ، خصوصاً خلال مرحلتي الطفولة الأولى والشيخوخة المتأخرة أو بسبب من العوّق الجسدي والنفسي والعقلي ، وذلك لاعتماده الكلي أو الجزئي على الآخرين في ضمان قضاء حاجاته المختلفة ؛ أما خلال مرحلتي الشباب والنضوج وهما المرحلتين التين تشكلان قمة في النضوج العقلي والجسدي ، فخلالهما تتعدد الخيارات الداخلة في صلب الحياة وديمومتها ونحو مستقبل أفضل من مثل : " التخصص والعمل و الزواج ... الخ " . أما العامل الآخر " الإمكانية الاقتصادية " فمن الثابت وعبر حياتنا المعاشة ما للإمكانيات المادية ( رأس المال النقدي ) من أهمية في تعدد أو تحديد خياراتنا وتيسير الوصول إليها ، بمعنى أن وفرة المال "الغنى" تجعل من أصحابها أمام خيارات متعددة ومفتوحة ؛ في المقابل فأن عسر الحال المالي "الفقر" يحدّ من الخيارات ويقللها ويحصرها استناداً إلى القليل المتوفر . أما بخصوص عامل الاستقرار الأمني ، ونعني به انتفاء الخوف من المجهول بأشكاله المختلفة والذي يعمل على كبت الحرية اللازمة للإبداع واتخاذ القرارات الصحيحة والواقعية لضمان التقدم ، مثالنا على ذلك المجتمعات التي تتمتع بنسب عالية من الاستقرار تستنبط خيارات واسعة غير مسبوقة لتحسين واقعها الجيد أصلاً لتطويره ، بخلاف المجتمعات غير المستقرة والتي يتمحور اهتمامها حول كيفية الحصول على الحدّ الأدنى من الأمن الشخصي والمجتمعي ، ذلك الحد الذي يعتبر بالنسبة لها ترف بعيد المنال . أما الواقع السياسي ونعني به العيش أما ضمن مجتمع متحضر تعددي ديمقراطي يعتمد حقوق الإنسان والقانون ضمن معايير تعامل أفراده فيما بينهم ، أو ضمن مجتمع ذات حكم استبدادي شمولي لا مجال فيه للحريات العامة ، حيث تتعدد الخيارات في الأول نتيجة الانفتاح على الرأي والرأي الآخر ، وتحدد أو تنعدم في الثاني وفقاً "لقوانين المنع وتكميم الأفواه" التي تضعها المجموعة الحاكمة .

           إن قمة المأساة في عالم اليوم يتمثل في محاصرة الإنسان " هذا المخلوق العظيم " وتحجيم قدراته وتقييد إرادته وبالتالي التأثير على حرية اختياره لننتهي بتقييد حرية مجتمع كامل يشكل الفرد نواته وأساسه ؛ فقد بلغت الهوة من الاتساع اليوم بين مجتمع وآخر حداً قد لا نغالي إذا قلنا بأنها لن تردم بالمنظور والقادم من الأيام إلا إذا توفرت القوة والعزيمة من قبل مجموع أفراد ذلك المجتمع . خلاصة القول أن هناك في عصرنا الراهن مجتمعات تخيّر أفرادها بين أفضل الطرق والوسائل للعيش الكريم والمريح ، وهناك مجتمعات أخرى تخيّر أفرادها بين أسرع الطرق "للموت" جوعاً أو قهراً أو حتى قتلاً وبمختلف الطرق المتعارف عليها في زماننا الاستثنائي الحاضر ...                   

 

 

Home - About - Archive - Bahra  - Photos - Martyrs - Contact - Links