عـيـنـاه

 

 

                                                         ابراهيم بادل

 علمتني الحياة أن أبحث عن الحقيقة.. حقيقة وجهي دون زيف أو رياء.

  حكاية قديمة لازالت تخفق في الفؤاد.. اهديها الى كل الاصدقاء الذين (غادرونا ) وهاجروا !.

 

* وقفنا صامتين في محطة القطار قبيل لحظات الوداع، وكانت نظراته حائرة تبحث عن شيء ما ولا تستقر على شيء.

قال بصوت خافت متهدج:

- ترى لماذا لم يحضر بقية الأصدقاء لتوديعي ؟..

قلت له وأنا أحاول أن أهدئ من تأثره وانفعاله وأبعد عنه الظنون:

- ربما لأنهم لا يريدون أن يفعلوا ذلك، ولا يريدون لك أن ترحل..

فسكت، كانت عيناه قد اغرورقت بالدموع..

قلت أخفف عنه:

- لماذا الهجرة والاغتراب أيها الصديق ؟. حتماً ستقول وللمرة الأخيرة إنها ظروف الحياة والبحث عن لقمة العيش،وفرص النجاح و المستقبل.. أليس كذلك ؟..

فهز رأسه بالإيجاب وهو يحاول أن يخفي الدموع في عينيه.

قلت له وأنا أذوب أسى وأسفاً وحسرة:

- لا تقل ذلك أيها الصديق، ولا تقل إنه طموح الشباب هو الذي يدفعك إلى الرحيل، فاللقمة فائضة في بلدنا وأرضنا الخيرة المعطاء، وفي وطننا مجالات واسعة لنمارس فيها طموحنا، ولكن...

صافرة القطار وهي تنذر بتحركه ألجمتنا بالصمت للحظات بدت أطول من كل الدهور والأزمان وكل منا ينظر إلى الآخر نظرات أخيرة..

قلت له قبل أن نتبادل قبلات الوداع:

- انتبه يا صاح وكن دائماً على حذر، ولا تنسى أبداً الوطن الذي تحبه وتعشقه.. لا تنساه في العسر واليسر.

كان القطار قد بدأ يتحرك ويطلق صافرته الثانية..

فقال الصديق وهو يسحب يده من يدي برفق:

- سلم على الأصدقاء الذين لم يسمح لهم الوقت بالحضور لتوديعي..

وصعد إلى القطار بخفة ورشاقة، وهو يلوح بيده مودعاً والدموع في عينيه.. وسار القطار ومضى وابتعد واختفى عن الأنظار.

عدت أدراجي بخطى متثاقلة والأفكار تتصارع في رأسي، وتساؤلات شتى تتدافع في خاطري:

- ( لماذا أراد الصديق الاغتراب كما الكثيرين الذين رحلوا ؟. وهمست في سري : ولكن ما الذي يربطنا إلى هذه الأرض الطيبة ويشدنا إليها بقوة ؟.).

كان أحد الأصدقاء الذين تخلفوا بسبب ما عن الحضور لتوديع الصديق الذي رحل قد أقبل في سيارة أجرة، وترجل منها على عجل واقترب مني وبادرني قائلاً:

- هل سافر ؟..

هززت رأسي بالإيجاب دون أن أنظر إليه..

فقال:

- كنت أريد أن أراه..

واستطرد بعد أن أشعل سيجارة وراح ينفث بدخانها وهو ينظر إلى الأفق البعيد.. قد تكون المرة الأخيرة التي كنت سأشاهده فيها، من يدري..

وأردف وهو ينظر إلى الساعة في يده:

ولكن لم يحن الوقت بعد، هناك ربع ساعة على موعد تحرك القطار..

قلت له قبل أن يكمل كلامه وقد أخذه الانفعال:

- يبدو أن ساعتك لا تعمل جيداً أيها الصديق، أضبطها يا صاح ولا تهملها أبداً فهي التي تذكرنا دائماً بالوقت الذي نضيعه هدراً.. ورجعنا صامتين.

بعد شهر وبعد أن حط الرحيل بالصديق في بلد أجنبي، جاءتني رسالته الأولى، كتب يقول فيها:

(إنه يتذكرنا ويتذكر الأيام التي عشناها معاً، وإنه يشتاق إلينا وإلى سهراتنا وأحاديثنا، وإنه يتذكر البلدة في كل وقت ويحن إلى سمائنا الزرقاء وشمسنا الدافئة).

في رسالته الثانية بعد مدة كتب يقول:

(إنه يعمل، وإنه يلتقي بالكثير من المهاجرين من أبناء شعبنا الآشوري، وإن حلقة الشعور بالغربة التي كانت تلفه في البداية بدأت تضيق..).

في رسالته الثالثة بعد سنة واكثر.. بعث صورته وقد ظهر فيها مع حسناء أجنبية، وقد كتب على ظهر الصورة: (إنها من حفلة ساهرة أقامها أحد الأصدقاء هنا ).. وفي الصورة يضع على عينيه قناعاً وقد ارتدى ثياباً غريبة الشكل وفي يده كأس ويده الأخرى تخاصر الحسناء الأجنبية التي تبدو في الصورة وهي تضحك ضحكة كبيرة.

ابتسمت في سري بألم، وتمنيت له في نفسي أن يهنأ بلقمة العيش التي رحل من أجلها.

في رسالته الرابعة بعد نصف عقد من الزمن، بعث إلي.. بطاقة معايدة بمناسبة بداية عام اخر، كتب عليها بالإنكليزية (To My Friend).. بضع كلمات بالإنكليزية لا أكثر...

ابتسمت ولكن بمرارة وألم، وغرقت في الصمت.

تغير عنوانه أكثر من مرة..

انقطعت رسائله بالمرة..

ومضى اكثر من عقدين على انقطاع أخباره عني، تمنيت خلالها أن يتذكرني في يوم ما، برسالة ما، مكتوبة بلغة ما..

ولكني مازلت أذكر عينيه المغرورقتين بالدموع لحظة الفراق.. عينيه السوداوتين الصافيتين كصفاء سماء الوطن.

 

 

Home - About - Archive - Bahra  - Photos - Martyrs - Contact - Links