العراق بين الدولة الديكتاتورية
والدولة الديمقراطية
خوشابا سولاقا
قبل الخوض في تحديد اشكال الدولة وركائزها لابد لنا من تعريف مفهوم
الدولة بشكل عام والفرق بين الدولة والحكومة.. فالدولة هي تلك القوة
الاجتماعية المنظمة التي تملك سلطة قوية تعلو قانونا فوق اية جماعة داخل
المجتمع، وعلى اي فرد من افراده.
ويميز الدولة عن بقية
الجماعات في المجتمع ذلك الاعتراف لها بحق القسر وطلب الطاعة من المواطنين
ويعطيها هذا الحق الاولوية على كل الجماعات الاخرى في المجتمع مثل الاحزاب
السياسية والجماعات الدينية والجماعات الاقتصادية والتجمعات العمالية
وغيرها..وهناك نظريات عديدة في الفكر السياسي لتفسير الدولة اهمها تاريخيا
النظريات المثالية واخطرها حاليا النظريات المادية.. ويلاحظ بأنه هناك
اعتراف اجماعي بين المفكرين السياسيين والفلاسفة والفلسفات عبر عصور
التاريخ "فيما عدا الفوضوية" بضرورة وجود جهاز عام في المجتمع يحدد شروط
الحياة وحدود القواعد المسموح بها. وتلاحظ بأن الدولة قد اختلفت بطبيعة
سلطتها من عصر تاريخي الى آخر حسب تغير علاقة الانتاج بين مالكي وسائل
الانتاج ومشغليها فظهرت اشكال عديدة من الدولة، من دولة دكتاتورية في عصور
المشاعية والاقطاعية والبرجوازية والرأسمالية ودولة دكتاتورية البروليتارية
الى الدولة الديمقراطية الحديثة التي فيها تتجسد ارادة الشعب بأقصى صورها
واشكالها وفيها تتحقق العدالة الاجتماعية والمساواة بين افراد المجتمع
الواحد والغاء كافة اشكال التمييز القومي والديني والمذهبي والجنسي واللوني
والطبقي، تلك الدولة تمثلها الان الدول الديمقراطية المتقدمة التي تتناوب
فيها السلطة سلميا ومن خلال صناديق الاقتراع في انتخابات حرة مباشرة.
وترتكز الدولة الحديثة
على المؤسسات الدستورية المتمثلة في السلطات الاربعة وهي:
* السلطة التشريعية
المتمثلة في البرلمان المنتخب من الشعب بصورة حرة وديمقراطية وتكون
واجباتها تشريع القوانين ومتابعة تنفيذها.
*السلطة القضائية بكامل
مؤسساتها القانونية واجباتها تطبيق القوانين وتحقيق العدالة وترسيخ سلطة
القانون.
* السلطة التنفيذية
المتمثلة بالحكومة بكامل مؤسساتها حسب شكل نظام الحكم المعتمد في البلد
وواجباتها خدمة المواطن وتوفير الامن والامان للمواطن وحماية الوطن من
الاعتداءات الداخلية والخارجية وحسب الدستور والقوانين النافذة وباشراف
ومتابعة البرلمان.
* السلطة الرابعة
المتمثلة في وسائل الاعلام المسموعة والمقروءة والمرئية ومؤسسات المجتمع
المدني واجباتها هو متابعة السلطات الاخرى ونقدها وتقييم كل نشاطاتها على
كافة المستويات وتمثل بالتالي هذه السلطة الجهاز الشعبي الرقابي على نشاط
الدولة.. هذه هي ركائز الدولة الاساسية ودور هذه السلطات يختلف بأختلاف شكل
الدولة وطبيعتها، ففي الدولة الدكتاتورية دولة الحزب الواحد ذات الفكر
الشمولي تكون السلطات جميعا محصورة بيد شخص الدكتاتور الذي يفرض ارادته
وسلطته من خلال اجهزة السلطة التنفيذية القمعية على كل شيء دون منازع،
وتكون السلطة التشريعية والقضائية معطلة ومرهونة بقرار الدكتاتور والسلطة
الرابعة بشقيها الاعلامي والمؤسساتي اداة مسخرة لتلميع وتبرير دكتاتورية
الفرد الحاكم والتغطية على كل ما يحصل من التجاوزات المخالفة للدستور
المعطل اصلا، وتكون السلطة التنفيذية والمحصورة في شخص الدكتاتور ذات
الصلاحيات المطلقة هي الكل في الكل، وحتى اعضاء الحكومة ليسوا الا مجرد
انعكاس مشوه وقبيح لشخص الدكتاتور وكانت دولة العراق الصدامية خير تجسيد
لمثل هذه الدولة. في مثل هذه الدولة يتم اختيار هذه السلطات من خلال
انتخابات صورية مزيفة غير ديمقراطية بغاية شرعنة هذه المؤسسات غير
الدستورية والمزيفة، مثل اجراء انتخابات برلمانية صورية والاستفتاء على شخص
الدكتاتور وغيرها من الالاعيب الرعناء، كل ذلك يجري بغرض اضفاء الشرعية
الدستورية على تلك المؤسسات غير الدستورية اصلا. اما في الدولة الديمقراطية
فيتم تشكيل هذه المؤسسات الدستورية من خلال اجراء انتخابات ديمقراطية حرة
مباشرة وشعبية وفق الدستور فيتم انتخاب السلطة التشريعية البرلمان من قبل
الشعب وعن طريق صناديق الاقتراع ومنه تنبثق السلطة التنفيذية والسلطة
القضائية بأعتبار الشعب مصدر السلطات من خلال ممثليه في البرلمان.
وبموجب الدستور يتم
تشريع القوانين التي تنظم عمل بقية المؤسسات الرسمية مثل السلطة القضائية
والسلطة التنفيذية وغير الرسمية مثل قوانين تنظيم عمل المؤسسات الاعلامية
من الصحافة وغيرها ومؤسسات المجتمع المدني وقوانين الاحزاب السياسية
والمنظمات الخيرية والانسانية والجمعيات الثقافية والنقابات تلك المؤسسات
التي قد تقوم قسم منها بدور المعارضة الايجابية في البرلمان من خلال
ممثليها في البرلمان ومن خلال صحافتها ووسائل اعلامها الاخرى المرئية
والمسموعة في ممارسة النقد البناء وتحديد اخفاقات الحكومة وتقويمها حسب ما
تراه مصلحة الوطن والشعب وضمن اطار الدستور الذي يعتبر المقياس الذي اليه
يجب العودة في كل ما تمارس من النشاطات في مختلف المجالات من قبل كل
الاطراف الموالية للسلطة او المعارضة لها فيما يخص الشأن الوطني ومصلحة
الشعب.
في ظل الدولة
الديمقراطية يكون هناك فصل تام بين السلطات وكل سلطة من السلطات تمارس
دورها بأستقلالية تامة عن السلطات الاخرى ولكن بالتنسيق معها وبموجب
الدستور، وفي ظل الدولة الديمقراطية تعمل جميع السلطات بتفاهم وانسجام
وبتنسيق عالي الدقة وكل سلطة تعرف حدود صلاحياتها اين تبدأ واين تنتهي
وتعرف ما هو ضمن واجباتها وما ليس كذلك وبالتالي تعمل جميع السلطات ككل
واحد وفق آلية عالية المرونة في تحقيق الهدف المشترك والذي هو خدمة الوطن
والشعب. وعندما تكون آليات العمل بين السلطات المختلفة للدولة بهذا التكامل
والانسجام وفيها القانون فوق الجميع يشعر المواطن بأنه في حالة من الامن
والامان ومصالحه وحقوقه محمية من قبل القانون عندئذ تكون تلك الدولة دولة
ديمقراطية فيها من الديناميكية والمرونة للاستمرار والتطور بخط تصاعدي
وتتطور مؤسساتها من احسن الى افضل وتصبح حماية الحقوق فيها تقليدا شعبيا
حتى على مستوى الشارع، وعندئذ يكون القانون موضع احترام وتقدير الجميع
ومحميا من قبل الجميع لان في ذلك مصلحة الفرد التي هي جزء من مصلحة
الجميع.. في مثل هكذا دولة تزول الحدود بين المواطن والمجتمع والدولة حيث
يشعر كل فرد في المجتمع اينما يكون هو مسؤول عن حماية كل شيء والحرص عليه
وينخرط المواطن ويندمج بشكل طوعي بحكم تطور وعيه المجتمعي نحو المجتمع ويرى
نفسه جزء من اجهزة الدولة، في هذه الحالة تنتفي حاجة الدولة الى وجود جهاز
حكومي ضخم من افراد الشرطة والامن لتطبيق القانون في المجتمع لتنظيم علاقة
الفرد بالمجتمع او علاقة الافراد ببعضها، اي ان في الدولة الديمقراطية يكون
احد اهدافها البعيدة المدى تحويل المجتمع الى جهاز تطبيق وحماية القانون
لاستتباب الامن والامان فيه وهذا ما هو موجود في الدول الديمقراطية
المتقدمة والمتطورة اجتماعيا وديمقراطيا ولكن هذا لا يعني ابدا ان تلك
المجتمعات خالية من الاستثناءات لان الجريمة توجد حيثما يوجد الانسان!!
اما ما هو عليه الحال
في العراق الان فليست هناك مقومات الدولة الدكتاتورية كما كانت في عهد صدام
وليس هناك اية ملامح وسمات الدولة الديمقراطية الحديثة، وما هو قائم وسائد
الان هو اقرب الى حالة انعدام الدولة بكل اشكالها اي ان الحالة هي اقرب الى
دولة الفوضى العارمة تضرب اطنابها في كل مجالات الحياة الاجتماعية
والسياسية والاقتصادية والامنية والعسكرية في العراق وهي دولة الفوضى غير
المسيطر عليها دولة الفلتان الامني دولة فاقدة لاي آليات ضبط المجتمع
والسيطرة على سلوكه الهدام المشبع بالجريمة بكل اشكالها، اي انها دولة تشبه
الى حد ما الى ما يذهب اليه معنى المثل الشعبي "حارة كل من ايدو الو"
والسبب في كل ذلك هو اولا عدم وجود تنسيق وانسجام بين السلطات وانعدام
آليات ذلك التنسيق والانسجام وثانيا غياب القوانين التي تضبط سلوك الشارع
والمجتمع، وثالثا وهو السبب الاهم في نشر الفوضى وتفشي الجريمة بكل اشكالها
المختلفة واشاعة ثقافة التخريب والتدمير والسرقة والنهب لممتلكات الدولة
والتجاوز على حقوق المواطن والدولة معا هو انعدام وضعف الوعي الوطني
الحقيقي وتفضيل المصلحة الشخصية على المصلحة العامة لدى غالبية المواطنين
والشعور بالمسؤولية نحو الاخر وممتلكات الدولة يكاد يكون غائبا هذه الثقافة
بمجملها اغرقت الشارع العراقي بسلوكيات انانية متخلفة ومنحرفة عن ادنى
مستويات التمدن والتحضر بكل المقاييس، وهذا شيء مؤسف يبعث الى الاسى في
النفس والاحباط المعنوي وذلك يعتبر ناقوس الخطر للانهيار للنظام الاخلاقي
للمجتمع العراقي وقيمه الحضارية العريقة ويجعل الاصلاح هدفا بعيد المنال.
حيث نجد في اية زاوية من ارض الوطن هناك من يبني ويعمر وآخر يسرق وينهب
ويدمر كأنه لا يمت بصلة بهذا الوطن، حيث التجاوزات العديدة والقبيحة على
حقوق الدولة سمة غالبة وشائعة في الشارع العراقي، اي ان ما نراه سائدا في
المجتمع العراقي "ان كل فرد قائم بذاته ولذاته" بعكس ما هو سائد وشائع في
الدولة الديمقراطية الحديثة "كل فرد قائم في المجتمع وللمجتمع".
اكيد ان بعض التنظيمات
والاحزاب السياسية لها اليد الطولى ودور كبير في اشاعة وتشجيع هذه الثقافة
بغرض الانتفاع من المال العام من خلال استعمال نفوذها في اجهزة الدولة
المختلفة وممارسة الفساد الاداري والمالي الذي وصل الى مستويات مخيفة لا
مثيل لها في اكثر بلدان العالم تخلفا وتأخرا. ومن اجل اعادة هيبة الدولة
وقوتها وسيادة القانون ونشر الامن والامان وبناء السلم الاهلي في المجتمع
العراقي من القيام بما يلي:_
1. الغاء اي شكل من
اشكال المظاهر المسلحة المتمثلة في الميليشيات المسلحة ونزع سلاحها بكل
اشكاله وحصر السلاح بيد الدولة واعتبار كل من يخالف ذلك خارجا عن القانون
ويلاحق قضائيا.
2. منع قيام التنظيمات
السياسية بممارسة نشاطاتها داخل مؤسسات الدولة المدنية والامنية واعتبار
الفرد في الوظيفة مجرد موظف عامل ضمن اختصاصه حسب مؤهلاته العلمية ووفق
القانون واعتبار مؤسسات الدولة مجرد مكان عمل وليس الا ويتم ملاحقة من
يخالف قانونا.
3. منع نشاطات النقابات
المختلفة في مؤسسات الدولة وفتح مكاتب لها والسماح لها بالعمل كمؤسسات
المجتمع المدني خارج مؤسسات الدولة ومنعها من استغلال مقدرات مؤسسات الدولة
لتحقيق مصالح نقابية وشخصية تحت تلك الواجهات كما هو الحال الان حيث اصبحت
النقابات تمارس دور السلطة البديلة لسلطة الدولة بل قد تحولت الى "دولة
داخل دولة" يجب ان يكون القرار في مؤسسات الدولة للدولة فقط دون غيرها،
ويتم محاسبة المخالف قضائيا.
4. منع نشاط اتحادات
الطلبة داخل الجامعات والمعاهد والمدارس ويجب ان تبقى تلك المؤسسات مجرد
دور للعلم وليس لاي شيء اخر وان تكون السلطة بيد ادارات تلك المؤسسات
بالكامل دون غيرها ومحاسبة المخالف قانونيا.
عند تطبيق هذه البنود
بالتعاون بين اجهزة الدولة المعنية وافراد المجتمع في المؤسسات المعنية
عندئذ نكون قد وصلنا الى انشاء الاطار العام وركائز الدولة الديمقراطية
المتقدمة والقائمة على اساس العدل والمساواة وتكون بذلك الدولة وسيلة فعالة
لتقديم الخدمات للمجتمع.
|