جحا .. وبصيص الضياء
عصام شابا فلفل
كثيرة هي المآثر التي يكتنفها موروثنا الشعبي الاصيل ، ولكن رغم ذلك فليست
العبرة بكثرة المآثر او تذكرها ، بل العبرة وكل العبر هي في كيفية تعلم
دروس الحياة منها او على الاقل الاستفادة ولو بقدر يسير من حكمها . وليس
غريبا اذا قلنا ان لجحا ( تلك الشخصية الفكاهية الشهيرة) مكانة خاصة في ذلك
الموروث الاصيل عند الشعوب العربية خاصة وشعوب العالم الاخرى بصورة عامة ،
فالمقالب التي تروى عن تلك الشخصية الفريدة من نوعها ، اصبحت امثالا يقتدى
بها واحيانا تؤلف على منوالها الكثير من الحكايات والروايات .. بل واصبح
الكثير منها تصنع منه دراما سينمائية وتلفزيونية عالمية .... وهنا تحضرني
حكاية طريفة كان بطلها صاحبنا الشهير جحا.... ففي اوائل الستينات من القرن
الماضي ، وحينها كنا صبية صغار نستعذب كل حكاية تقص علينا من قبل احد كبار
المنزل كان يكون جدنا او جدتنا واحيانا الوالد او الوالدة ، كنا نجلس حول
الموقد الفحمي ( المنقل ) وخصوصا في ايام الشتاء القارص ونحن نستمع بشغف
الى تلك الحكايات حيث لم يكن لدينا في المنزل من سبل الترفيه الحديثة
كالمذياع او التلفزيون وغيرها من مخترعات العصر . .. تقول الحكاية :
يحكى ان اميرا من الامراء .. اراد تزويج ابنته بطريقة غريبة
جدا ، اقرب ما تكون الى الخيال من الحقيقة ، ففي احد ايام الشتاء القارص،
والصقيع قد جعل مياه البرك والسواقي جليدا ، امر صاحبنا الامير حاجبه بان
يطلق نداء في جميع اصقاع امارته يعلن فيه بانه سوف يزوج ابنته بحفل عرس
مهيب وكبير جدا للشاب الذي يستطيع ان يجلس عاريا في بركة القصر الجامدة
طوال ليلة صقيعية واحدة ، وكالعادة فان الشباب يبهرهم الزواج من بنات
الاكابر ، لذا انبرى العديد منهم للقبول بهذا الشرط ، ولكن لم يستطع احد
منهم الاستمرار اكثر من ساعة واحد فانسحب الجميع من ساحة السباق الاّ شابا
واحدا حيث ثابر على الفوز بابنة الامير، فخلع عنه ملابسه وجلس القرفصاء في
بركة القصر المثلجة من مساء اليوم الى انبلاج الفجر .. وفي الصباح ارتدى
ملابسه والفرح يأخذ منه مأخذا بفوزه ببنت الامير حسبما كان يعتقده من وعود
والدها. فذهب الى الامير مطالبا اياه بتنفيذ وعده ، ولكم الامير ( وكعادة
الامراء في خداع شعوبهم ) اخذ بمماطلة الشاب محاولا النكوث بوعده بطريقة او
باخرى ، لذا فقد وجه الامير للشاب سؤالا وهو كلام حق يراد به باطل ، فقال
له ( هل شاهدت او رايت اية نار او ضياء في الليل..؟) اجاب الشاب ببراءة (
لم ار اية نار سوى بصيص ضوء ضعيف على قمة ذلك الجبل البعيد ، فنظرت اليه
طوال الليل متأملا فيه قدوم الفجر ) .. وهنا انتفض الامير كالبطل المنتصر
في معركة طاحنة قائلا ( لقد سقط حقك في الزواج من ابنتي ) تعجب الشاب من
قول الامير وقال له ( لماذا يا مولانا الامير ) قال الامير ( لأنك قد تدفأت
ببصيص النور الذي شاهدته على قمة الجبل ) فطرده من حضرته ، وهنا خرج الشاب
من قصر الامير مهموما كئيبا والغم كله مطبق على وجهه .. وفي الطريق صادفه
جحا فسلم عليه ، ولكن الشاب المهموم لم يرد السلام ، فتقدم اليه جحا وساله
عن سبب همه وكدره .. فسرد الشاب لجحا حكايته من الفها الى يائها وكيف وماذا
حصل في تلك الليلة المشؤومة في قصر الملك .. فابتسم جحا وقال للشاب يطمئنه
( لا تهتم لشيء .. لأنك سوف تتزوج الفتاة بعد اسبوع انشاء الله وسيعتذر منك
الامير ويزفها اليك بعرس كبير كعرس الامراء والملوك ) فاستغرب الشاب من ثقة
جحا بكلامه وقال له ( كيف سيحصل هذا ..؟) قال له جحا( اذهب الان الى بيتك
ودع الامور لي .) فذهب الشاب في سبيله ، اما جحا فقد ذهب الى قصر الامير
وقال له ( مولانا امير البلاد المعظم.. يشرفني ان تكون وحاشيتك ضيوفي على
وليمة شرف ساقيمها في منزلي لعظمتكم يوم غد وقت الغداء باذن الله تعالى ..
لذا فانا اتشرف بحضوركم وغدائكم في منزلي المتواضع ) فقال الامير ( قبلنا
دعوتك يا جحا وسنكون والحاشية ضيوف منزلكم يوم غد وقت الظهيرة) .. وفي
اليوم التالي وفي وقت الظهيرة حضر الامير وحاشيته الى بيت جحا لتناول وجية
الغداء ، فرحب بهم جحا ايما ترحيب وادخلهم الى ديوان منزله وبعد ان احتسى
الامير والحاشية فنجان القهوة ، سال الامير جحا( هل الغداء حاضر يا جحا..؟)
قال جحا ( سيجهز بعد قليل يا مولاي ) .. ومرت ساعة من الزمن .. قال الامير
لجحا( اين اصبح الغداء يا جحا ) قال جحا ( مولانا الامير اصبر فلم يبق الا
دقائق معددوات .. اصبر قليلا مولاي) . .. ومرت ساعتان وثلاث .. واخذا الجوع
مأخذه من الضيوف ، فاغتاظ الامير جدا وغضب على جحا وقال ( اين الغداء يا
جحا .. هل تجرأت على السخرية بالامير وحاشيته ) . قال جحا ( معاذ الله يا
مولاي ان كنت اسخر بكم .. ان الغداء على النار .. وان لم تصدقني فتعال
وشاهد بنفسك ) .. وفعلا ذهب الامير مع حجا لرؤيته ومشاهدته كيف يطبخ وليمته
، وحين وصل الى مكان الطبخ ذهل الامير مما رأى .. حيث شاهد جحا وقد جهز
قدرا كبيرا جدا من اللحم وعلقه بحبل بين دارين في الزقاق الذي بجانب بيته
وعلى ارتفاع ثلاثة امتار وقد اشعل تحته شمعة واحدة صغير .. فغضب الامير
جدا وقال ( ايها الابله . اتسخر بالامير ام انك غبي الى هذا الحد.. كيف
لهذه الشمعة ان تسخن قدر على ارتفاع ثلاثة امتار، والله لأجلدنك حتى الموت
يا ايها الغبي ) ... حينها ضحك جحا وقال ( مولانا الامير .. ان كانت هذه
الشمعة لا تستطيع ان تدفيء ماء القدر القريب منها جدا والذي لا يبعد عنها
الا مترين او ثلاثة ، فكيف لبصيص ضوء بعيد جدا وعلى قمة جبل يبعد عدة فراسخ
من قصر الامير ان يدفيء شابا طموحا جالسا في بركة قصر الامير الجامدة طوال
الليل) حينها ادرك الامير خطأه فاعتذر من جحا وارسل في طلب الشاب واعتذر
منه ، ومن ثم بعد اسبوع زفت ابنة الامير في عرس مهيب الى الشاب الطموح الذي
كاد ان يضحي بحياته من اجلها .. تلك هي كل الحكاية .... والعبرة لمن يعتبر
... تحياتي
|