كلمة رثاء بمناسبة أربعينية
المرحوم المؤرخ الكبير هرمز ابونا
اشور ياقو البازي
باسم الاب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين
أنا هو القيامة والحق والحياة من آمن بي وإن مات فمسيحيا
الراحة الأبدية اعطه يارب ونورك الدائم فليشرق عليه
الصبر والسلوان لاهله وذويه ومعارفه ومحبيه
بين عشية وضحاها فقدنا
العلامة المؤرخ الكبير الدكتور هرمز ابونا، بينما كان ليل نيسان يحتضر
حزينا ً، نتذكرك جيداً ونتأمل صفاتك.. لقد كنت مميزاً في كل شيء، ذكيا في
منهجك، وديعاً في شكلك، رومانسياً وعاطفياً في تعاملك مع الآخرين، حين تنعى
أجراس الكنائس في ألقوش خبر رحيلك المفاجئ، تبدأ مسامير الفرقة ُتدق في
قلوب أصحابك و أحبابك المشتتين في أنحاء المعمورة...
إنهم يرتعشون لسماع خبر
فراقك، ينسجون الحزن ويعانقون الدموع، أتذكر يا هرمز ابونا وسهراتك معنا،
كنت كالراعي الحريص على غنمه. الصبورعلى رعايتهم وتحملهم رغم معاناته
وألمه، لِم َلم تبق معنا، لم يطل مشوارك، رحلت سريعا ً و لن تعود، كنت محبا
للعلم، حين ملئت حقيبتك بالحقائق والوثائق سافرت بعيدا ً عبر البحار لتزرع
النور بدل الظلام.. زرعت، وحصدت، وكانت أحلامك عظيمة وأمنياتك كريمة،
وطموحك لا ينتهي ولم يوقفه المرض العضال، لقد مرت أربعون يوماً على فراقك
يا مؤرخنا الكبير، ويا له من مصاب جلل.
نبكي! ماذا نبكي؟ فكره
الراقي، ام علو الهمة والصبر الذي لديه؟ أ نبكي فيه رصانة عقله، وسداد رأيه
أم هدوء حواره، أم بعد نظره وتواضعه، نعم سنبكي فيه الأمانة والحلم، نبكي
فيه الدفء والحنان، ورحابة الصدر وحبّ الألفة، نبكيه لأنه ترك الجميع
والجميع يحتاجه، سنبكيه جميعاً، أما هو فسيبتسم لدمعتنا، ويرى في فجيعتنا
عليه منظراً من أجمل المناظر وأبهاها، لأنه يعلم ان دموعنا المذروفة ما
بعده، إنما هي ألسناً تنطق بحبه وتعظيم نبله، والاعتراف بحسن صنيعته، نبكي
تلك الروح الشامخة التي رحلت لتعلو إلى عالم لا نشعر به ولا ندركه، لقد رحل
إلى حيث لا تراه عين، ولا تسمعه اذن.
لا تبكوه.. بل خلّدوه
فيما كتبه ومجدوه في إنجازاته الثمينة.. وارفعوا لروحه الطاهرة ترنيمة
الشكر والعرفان بالجميل، بدلاً من ندبات الحزن والأسى، إن أردتم أن تخلدوه،
خذوا من أخلاقه الصافية وانهلوا من حكمه الوافية ما يلم شتات هذه الأمة
ويوحد صفوفها ويقوي عضدها ونحقق له بذلك حلمه الأوحد في أن يرى هذه الأمة
واحدة متحدة.
أما أنا فلست أبكيك، لأنك
حيّ ستبقى في وجداني، كما كنت حي في وجدان البقاء يا أبا فرات، لا تحزن
لنا.. لأنك بحزنك تريد إيقاف الزمن وحجب نور الشمس، وإعادة عقارب الساعة،
والمشي إلى الخلف، و ردّ النهر إلى مصبّه، و كذلك يا أم فرات العطوفة، ما
جفت دموعك ِ على رافد كي تفقدي عماد البيت.. لا تحزني وانتظري الفرج، لا
تحزني وأنت تملكين الدعاء، وتجيدين الانطراح على عتبان الربوبية، وتحسنين
الصلوات على أبواب ملك الملوك، والدته، إخوانه، أحبابه، أقاربه، أصحابه،
أصدقاؤه، لا تحزنوا... ما دمتم تقرأون و تسمعون هذه الكلمات، فإن العافية
لا يعادلها شيء. إن قضية هرمز ابونا لن تموت، لأنها عقيدة في قلب كل من
أحبه، فهل سمعتم، أو قرأتم عن عقيدة يحملها آلالاف يمكن أن تموت؟! إنا نحن
نموت في سبيل العقيدة وما ماتت عقيدة من أجل حياة إنسان.
نحن الذين سافرنا كثيرا..
وأحببنا كثيرا.. وتألمنا كثيرا.. وحدنا نستطيع أن نقدر المزايا المتشابكة
بعواطف الرقّة، وأن نفهم ارتباط الحب الوثيق بالصداقة. ابكوا معي على
أنفسنا وعلى خطايانا وعلى فرقتنا.. لأننا ما زلنا في هذا العالم الفاني، في
هذا البحر الهائج، نفتش عن شاطئ نرسو فيه فلا نجده، تلاطمنا أمواجه وتقف في
وجوهنا كالجبال الشامخات، ولا نستطيع أن نمخر عبابها، ولكنك يا هرمز ابونا
تقدمت علينا وجزت هذا البحر وحطمت أمواجه وأنزلتها رذاذا، فوجدت شاطئ
السلامة.
أ بعد كل هذا هل نبكيك؟!
وها نحن لا نبكي أحدا سوى أنفسنا، وإن كان البعض يبكيك الآن، لمودتك
المفعمة بالمحبة و شخصيتك الرزنة، هكذا وكما تنطلق صفّارات الإنذار ويحلق
طائر الموت بنعيقه المرعب، تناقلت أخبار رحيل مؤرخنا عبر القارات، هل نصدق
ولا نصدّق؟ وكيف لنا أن نتخيل تلك الغيمة الباهرة في سماء تورنتو قد تلاشت،
بعدما كانت مضيئة في أفق اللانهاية.
ومسك الختام يا هرمز ابونا
فراقك يا معلّم لأمر عسير
خفقت له المهج و القلوب
ففي رحيلك ألم كبير
ومصاب لا يعرفه سوى علام الغيوب
فقد نشرت سفينتك الشراع
وأذنت بالوداع
لا توجد أمة بالعدل تباهينا
أسعد قاصينا ودانينا
بفضله ثمار الخير نجنيها
والنفس بلغت أمانيها
رحل عن دنيانا وأبكانا
يا من ذهب يومه وأمسه
وغاب قمره وشمسه
يا من خطفه الموت كالبرق
وبكى عليه من سكن الغرب والشرق
جرت دموع الفراق وابلاً ورذاذا
وتقطعت الأكباد من الحسرات أفلاذا
والقلب لفراقه يندم
والدمع صار كالدم
الحزن بالقلب تبادر
والعين بالمدمع مدرار
زلزل فراقه القلوب السواكن..
رعاك الله بقبرك يا من هز كياني
يا من بحق الله عمل ولا يبالي
أبكيك وتبكيك كل الاسامي
يا من بكاه الآباء والأمهات والبنين
والأخوة والأخوات والمقربين
العين هلت من الدمع صافيها
والنوم للعين صار مجافيها
حين ودعوك وللقبر شيعوك
فجرت في قلوبنا العبرات
الدموع فيك قليلة
يا منبع الاحترام والفضيلة
سألنا الله لك أن يهديك الجنات
ويهيل على قبرك من وافر البركات
وعزاؤنا فيك كبير
آه على فراقك
آه أيها الموت
يا أيها الموت ترفق دموع الحنين للغالي تتدفق
قلوبهم من ألم الفراق تتشقق
أبا فرات
هل من وقفة أخرى قبل الوداع
تطفئ بها نار الشوق ما أحترق..
رحلت يا مؤرخنا الكبير هرمز ابونا عنا،
كضوء البرق، وصوت الرعد..
لقد تحجرت الدموع فى المأقي
أهل نبكيك.. أم نرثيك..
أم نذرف الدموع على فراقك..
هكذا رحلت بدون سلام..
بدون كلام..
أنت البسمة..
أنت الفرحة..
لك في وادي الرافدين أحلام
وعلى تراب ألقوش أروع قبلات السلام
وآهات، ودموع.
نعم الصديق أنت،
ونعم الرفيق أنت
وإن كان فى فراقك آلام.
أنت الرجل الطيب الحنون،
وبذالك تشهد لك الأيام.
أقول وقلبى يعتصر ألمآ..
لن نبكيك،
بل سنرثيك بأسمى آيات الفخر والإعتزاز،
فإلى جنات الخلد يا مؤرخنا الكبير.
لقد عشت فينا كالنسمة التي أنعشتنا،
وسرعان ما غابت.
لقد أحببت الحياة والناس.
كم نفتقدك أيها الغالي اليوم،
ونفتقد صوتك وكلماتك.
وتعجز الكلمات اليوم
أن تصف ما تحمل قلوبنا من حب وحنين لك،
وما يختلجها من أحزان ودموع على فراقك.
وكم نحسد تراب قبرك،
لانه وحده الذي يشعر بدفئك،
وحنانك، وطيبتك
|