ما هي
السياسة...؟
خوشابا سولاقا
كثيرا ما نستعمل من المفاهيم والمصطلحات الفكرية
والفلسفية والاقتصادية والسياسية والثقافية في حياتنا اليومية للتعبير عما
يحصل في المجتمع من التطورات والصراعات والارهاصات الاجتماعية والمعيشية
والسياسية والثقافية وبالاخص من العاملين في حقول الثقافة والفكر والفلسفة
والاقتصاد والسياسة، من دون ان نتعمق في التغيير الحاصل في مضامين هذه
المفاهيم والمصطلحات التي لابد لها ان تتغير مع تطور الحياة في جميع
المجالات، ومن دون ان نسبر اغوارها وان نحدد علاقاتها ببعضها البعض في
الحياة الاجتماعية لمجتمعاتنا، وبالتالي اعادة صياغة مضامينها الجديدة
بالشكل الذي يعبر وينسجم مع متطلبات حياتنا الحاضرة مع استيعابنا لعناصر
مضامينها الماضية للانطلاق نحو افاق المستقبل عبر استلهامنا لمضامينها
الحاضرة. اي بعبارة اخرى اكتشاف تلك العلاقة الجدلية التي تربط الماضي
بالمستقبل عبر الحاضر، لان الحياة في حالة تطور وتغير مستمر دائم عليه تكون
مضامين هذه المفاهيم والمصطلحات الثقافية والفكرية والفلسفية والاقتصادية
والسياسية وفقا لذلك في حالة من التطور والتغير المستمر الدائم. اي ان
مضامين المفاهيم والمصطلحات تتغير وليست ثابتة بتغير الزمان والمكان ومن
هذه المفاهيم مفهوم السياسة موضوع مقالنا هذا:
فالسياسة كما عرفت هي فن الممكن، وهي علم الحكومة وفن علاقات
الحكم، وتطلق ايضا على مجموعة الشؤون التي تهم الدولة، كما تطلق ايضا على
الطريقة التي يسلكها الحاكمون في حكمهم.. ومن اقدم المؤلفات التي وضعت في
علم السياسة هو كتاب الفيلسوف والمفكر الاغريقي الكبير ارسطو بهذا الاسم،
اي "كتاب السياسة"، والذي يقول فيه ما خلاصته، ان السعادة كامنة في المجتمع
وليست غريبة عنه او طارئة عليه، ويدرس ارسطو المجتمعات والجماعات مبتدئا
بالعائلة ثم الدساتير المختلفة المعتمدة والموجودة في زمانه، حيث ينتقد
قسما منها كما فعل مع دستور قرطاجة وتنبأ بسقوط امبراطوريتها وذلك لفساد
سياستها. ويفرق ارسطو بين انواع ثلاث لاشكال السياسة السائدة في زمانه،
الملكية والارستقراطية، والديمقراطية، حيث يقول ان السياسة الملكية اذا
انحرفت تصبح سياسة استبدادية والارستقراطية حين تنحرف تصبح اوليغاركية
والديمقراطية حين تنحرف تصبح غوغائية وقد اثبت تاريخ حياة المجتمعات
اللاحقة بعد ارسطو دقة رؤيته وصواب رأيه ونفاذ فكره.
وبالتالي يطلب ارسطو في كتابه المذكور بالتعليم ليرتفع شأن
المحكومين والحكام والحكم، هنا يعطي دوراً كبيراً للعلم والفكر والثقافة
واهميتها في علم السياسة، هذا كان قديما قبل اكثر من الفين واربعمائة سنة
فكيف يجب ان يكون الحال الان...؟
اما المفكرون المعاصرون فيرون في غالبيتهم ان السياسة علم وفن
معا، فهي علم لان في السياسة قواعد متواترة ومنتظمة يمكن ارساؤها، ويمكن
التنبؤ بها، وهذه القواعد تختلف بالطبع عن تلك القواعد العلمية التي تستنبط
في علوم الطبيعة والرياضيات، لان علم السياسة علم انساني، تختلف قواعده
واسسه عن قواعد واسس علوم الطبيعة، ولكن هذا الاختلاف وتلك الصعوبة في
استنتاج القواعد لا ينفي صفة العلم عن السياسة. وعلى الرغم من كون السياسة
علما انسانياً واجتماعياً فانها ايضا "فن" لانها تتوقف على الاختيار
والتوقيت والتقدير.
ومن هنا نجحت بعض الاحزاب السياسية وفشلت اخرى، لان القيادة
الواعية اي القيادة العلمية والخلاقة، اي القيادة التي تستطيع ان تنظر الى
ابعد الاحتمالات الممكنة السلبية والايجابية، وتقيس الفرص بدقة متناهية،
وتحس بالتوقيت المطلوب هي التي توفر لها اسباب النجاح وفقدان لهذه العناصر
يخلق اسباب الفشل.
وقد فشلت بعض الاحزاب بسبب اعتقادها وظنها ان التسلح بنظرية
علمية يكفي للنجاح والتوفيق دون ان تعطي اهمية الى الاختيار والتوقيت
والتقدير.
وهناك ايضا مسألة مهمة تثار في السياسة وهي علاقة السياسة
بالاخلاق، وعلاقة الغاية بالوسيلة، وهي بحد ذاتها مشكلة فلسفية واخلاقية
وقد اثيرت من قديم الزمان ولاتزال تثار لحد الان، اي منذ ان الف المفكر
الايطالي نيقولا ماكيا فلي لكتابه المشهور "الامير" الذي يقول فيه ان
"الغاية تبرر الوسيلة" في الحكم، بينما يقول اخرون من الاشتراكيين
واللبراليين والديمقراطيين ان الغاية الاخلاقية لا يمكن لها ان تحقق تحقيقا
سلميا ما لم يلجؤوا الى وسيلة موازية في الاخلاق للغاية الاخلاقية.
وهكذا نرى ان اعتماد اي شكل من اشكال السياسة كوسيلة لحماية
المصالح مهما كانت تلك المصالح، ان ذلك لا يبيح ان تكون تلك السياسة غير
اخلاقية. فمثلا ان السياسة التي اعتمدتها الدول الاستعمارية الراسمالية بعد
عصر النهضة في اوروبا اي في عصر الاستعمار الكولونيالي والراسمالي
والامبريالي كوسيلة لتحقيق مصالحها الاقتصادية والقائمة اساسا على شن
الحروب الاستعمارية وغزو البلدان الاخرى في العالم وبالذات ما بات يعرف
بالعالم الثالث للسيطرة على المواد الخام لتشغيل مصانعها وايجاد اسواق
جديدة لصرف منتجاتها الصناعية، هذه السياسة ادت الى اضطهاد شعوب هذه
البلدان ومصادرة حقوقها بما فيها الحقوق الانسانية واستغلال ثرواتها ونهب
خيراتها وافقارها وبالتالي تخلفها وتاخرها في جميع مجالات الحياة، وكذلك
ادت الى ممارسة سياسة الاضطهاد القومي والتمييز العنصري السيئة بحق شعوب
وامم البلدان المستعمرة كما كان الحال في بلدان آسيا وافريقيا واميركا
اللاتينية، وكذلك مورست سياسة الاضطهاد والتمييز العنصري والقومي والديني
في الامبراطورية العثمانية والبلدان العربية والاسلامية الحديثة بحق
الاقليات القومية والدينية وخير مثال على ذلك مذابح الارمن والاشوريين
وغيرهم. ان هذه السياسة في الحقيقة ووفق كل المعايير الاخلاقية والانسانية
سياسة غير اخلاقية وانها عار في جبين تاريخ الانسانية وتشكل وصمة عار
للحضارة، وهي سياسة تجسد مضمون مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة".
وعلى انقاض وحطام هذه السياسة والحاجة الانسانية الى المزيد من
العدل والمساواة والحرية والحياة الانسانية الكريمة وتقليل الفوارق بين
البشر ظهرت سياسة جديدة هي سياسة التعايش السلمي بين الشعوب وتبادل المصالح
والمنافع الاقتصادية والثقافية القائمة على اساس حوار الحضارات والثقافات
الانسانية ونبذ الحروب العدوانية ونبذ الوسائل العنيفة لحل النزاعات بين
الامم واشاعة الثقافة الديمقراطية وقيم الحرية والمحبة والاخوة الانسانية،
ان هذه المفاهيم والافكار هي وحدها الكفيلة ببناء عالم جديد اكثر عدلا
ومساواتاً وانسانية، عالم انساني خالي من كل اشكال الظلم والطغيان
والاضطهاد القومي والديني خالي من استغلال الانسان للانسان بسبب العرق
والقومية والدين والجنس ولون الجلد والمعتقد الفكري كما هو عليه الحال في
البلدان الديمقراطية الحديثة البلدان التي تؤمن بحقوق الانسان وحرية الفرد
وتعتبره اساس المجتمع الحر. وخير مثال على نجاح سياسة التعايش السلمي بين
الشعوب قيام الاتحاد الاوربي الذي شهدت بلدانه واممه حروباً دموية مدمرة
وكانت آخرها الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها قرابة خمسين مليون
انسان وحرقت مئات المليارات من الدولارات مقابل خراب بلدان الجميع، بالرغم
من كل ذلك تمكنت الارادة الحرة والعقل الانساني النير من اكتشاف طريق
الصواب نحو حياة افضل اكثر امنا وامانا ورفاهية فهكذا انتصر الحق على
الباطل في اوروبا، ولكن متى يستفاد شرقنا العربي والاسلامي من هذه التجربة
الانسانية الرائدة ويتجاوز اسباب نزاعاته وصراعاته القومية والدينية التي
اكل عليها الدهر وشرب..؟ لماذا لا نبدأ من حيث انتهى الاخرون لماذا نكرر ما
انجزوه..؟
وكذلك هناك الكثير من التجارب العالمية نكتفي بذكر تجربة
الاتحاد الاميركي الذي يضم خمسين ولاية ومئات القوميات ومختلف الاجناس
والاديان، الا ان الجميع يعيشون تحت حماية القانون والدستور الاميركي،
وللجميع نفس الحقوق والواجبات والجميع تحت القانون وليس هناك من هم فوق
القانون، وهناك امثلة كثيرة للتعايش السلمي بين الشعوب آخرها تجربة جنوب
افريقيا. وهناك الان جهود حثيثة تبذل من قبل المفكرين والفلاسفة والكتاب
والفنانين وجميع المثقفين عبر بلدان العالم لبناء ثقافة التعايش السلمي بين
الشعوب، ثقافة الديمقراطية وقيم الحرية والعدل والمساواة والاخوة الانسانية
لتحقيق شعار اولمبياد بكين - 2008 "عالم واحد ... حلم واحد".
|