سكتوا دهراً ونطقوا كفرا
حازم زوري
إن المتابع لحيثيات جلسة مجلس النواب العراقي التي كرست لموضوع استهداف
المسيحيين قبل أيام يصاب بالغثيان والإعياء لما تضمنته بعض المداخلات من
فجاجة ولا نقول سذاجة لان من المفترض بعضو البرلمان الوعي العالي والتقدير
المسبق لأبعاد كل كلمة ينطق بها وليس إطلاق العبارات جزافاً ، كما يفترض
فيه الخوض في جوهر المشكلة وليس الهروب إلى أثارها ونتائجها ، فبدلا من
التوقف عند موضوع المشكلة الأساس والبحث في الوسائل الناجعة والكفيلة
بإنقاذ الأرواح البريئة أطلق البعض من هؤلاء النواب العنان لنفسه متناولاً
الفرعي والثانوي في هذا الأمر وذلك إما بانتقاد ما أبدته بعض الدول من
استعداد لقبول مسيحيي العراق في بلدانها إذا ما رغبوا في ذلك بعد اتضاح عجز
الحكومة العراقية وأجهزتها الأمنية عن حمايتهم في وطنهم وعلى مدار السنوات
السبع الماضية ، أو بتقديم مبررات واهية وأغطية مهلهلة للإرهاب القبيح من
خلال الادعاء بان ما يحدث لمسيحيي العراق يأتي في إطار الانفعال ورد الفعل
لبعض المجاميع المتطرفة على خلفية بعض الممارسات الفردية المسيئة لبعض
الرموز الإسلامية في بعض المجتمعات الغربية كموضوع الرسوم الكاريكاتيرية
وما إلى ذلك ، مع إن الجميع يدرك إن لا رابط بين مسيحيي العراق وبين أصحاب
هذه الممارسات وهم ليسوا مسؤولين عن أفعال وتصرفات الآخرين ، ويدركون أيضا
حجم وأفاق حرية التعبير عن الرأي في تلك الدول وان هذه الممارسات المسيئة
ترتكب بحق جميع الأديان ورموزها وليست قاصرة على دين بعينه ، وهي بالتأكيد
مستهجنة وغير مسوغة ولا مقبولة بحق جميع الأديان ولكن ليس عدلا ولا منطقيا
أو أخلاقيا أن يدفع مسيحيو العراق ثمن تلك الانتهاكات والإساءات من دمائهم
وأرواحهم ، وان تقديم الأغطية وسوق الأعذار لتبرير استهداف المسيحيين في
العراق على النحو الذي نشاهده اليوم إنما هو تعبير ضمني وشبه صريح عن موقف
داعم للإرهاب أو متناغم معه في الهدف والرؤية فكيف الحال إذا جاء هذا
الموقف على السنة البرلمانيين ومن يعين المسيحيين على بلواهم إذا كان هؤلاء
برلمانيوهم ، وإذا كان البعض مصراً على الربط والقول بأن الأعمال الإجرامية
المرتكبة ضد مسيحيي العراق هي رد فعل على تلك الممارسات فهل يعقل أن يكون
حجم رد الفعل عليها بهذه البشاعة والدموية وذلك بقتل الأنفس التي حرم الله
قتلها ؟.
أما بالنسبة لما أبدته بعض الدول من استعداد لقبول المسيحيين العراقيين
على أراضيها وأيا كانت دوافع وأهداف ذلك الاستعداد وهل هو لباعث إنساني محض
أم لبواعث أخرى فنقول لا يجدر ببعض برلمانيينا وصف تلك المواقف بالمشبوهة
وتعميم الوصف على موقف الفاتيكان أيضا ؟ فالمعروف للجميع ومنذ سنوات إن
خطاب الفاتيكان والكنيسة العراقية بكل ألوانها المذهبية وكل رموزها
ومرجعياتها هو في إطار مناشدة ودعوة المسيحيين إلى الصبر والصمود والثبات
في الوطن لتجاوز المحنة وعدم الانصياع لمآرب الإرهاب ومن يتفق مع أجنداته
في السر والعلن والرامية إلى القضاء على الوجود المسيحي في العراق نهائيا ،
ولم يكن موقفهم ابداً داعياً أو محرضاً لإتباعهم على ترك العراق ؟ فما
الداعي إلى إسباغ وصف المشبوه على مواقف الفاتيكان الهادئة والمتوازنة
والمتعاطفة مع الجرح العراقي عموما وإضفاء الوصف نفسه على الدعوات
الإنسانية المنطلقة من هذه الدولة أو تلك تجاه المسيحيين العراقيين ؟ .
وإذا كانت تلك المواقف والدعوات مشبوهة فبماذا يوصف موقف المتفرج وغير
المكترث وربما المتشفي لبعض أهل الدار في وطننا المنكوب من بعض القوى
والرموز التي لم تنبس ببنت شفة في موضوع الإبادة التي تجري للمسيحيين في
العراق حتى الآن ؟ ولم تكلف نفسها عناء إدانة ما يجري لهم ولو كانت تلك
الإدانة خافتة وباهتة وخجولة وذلك اضعف الإيمان ؟
ألا يفترض في إخوة الوطن والمصير التضامن فيما بينهم ونصرة بعضهم البعض
لا سيما وان الأمر بهذه الجسامة وعلى هذا النحو الخطير الذي ينطوي على
الرغبة في القضاء على مكون مهم يمثل احد ألوان النسيج الوطني المهمة، والذي
يقف اليوم في أولويات سلم التحديات التي يواجهها العراقيون حكومةً وشعباً .
إن غير المهتمين والمسترخين وأصحاب موقف اللاموقف من كل المأساة
العراقية ومن انهار الدماء المهدورة المتعددة الألوان لكل أطياف شعبنا
عليهم الخروج عن صمتهم وإيضاح حقيقة مواقفهم ، أما إذا كان البعض قد أغاضه
تكريس إحدى جلسات مجلس النواب لموضوع خطير بهذا الحجم لاعتقاده بأن حياة
ومصير أرواح ( أهل الذمة ) في العراق لا يستحقان نقاشا واهتماماً بهذا
المستوى فينطبق عليه المثل القائل ( لا يرحم ولا يدع رحمة الله تنزل ) ،
لهؤلاء نقول إن الأصوات التي خرجت من بعض الدول وأظهرت الاستعداد لاستقبال
المسيحيين في أوطانها لم تأت من فراغ وهي ليست للاستجمام أو لقضاء أوقات
ممتعة في ربوعها وانما جاءت لإنقاذ حياتهم بعد تواصل تعرضهم لحملات القتل
والتشريد والتهجيرمنذ العام 2003 وحتى الان وتاكد عجز الحكومة العراقية
ومؤسساتها الامنية عن حماية هذا الجزء المهم من الشعب العراقي ، ومن المؤكد
ان القوى التي تستهدف المسيحيين في العراق تقف خلفها وبدرجات متفاوتة
ووسائل متعددة ومنطلقات مختلفة قوى داخلية وخارجية تناغمت فيما بينها على
هدف اقتلاع المسيحيين من ارضهم وان تباينت رؤاها ومواقفها في قضايا اخرى
والمواقف السلبية لهؤلاء وامثالهم دليلنا على ذلك .
اما بالنسبة لمبادرات الغرب الانسانية في حماية القوميات والاثنيات
والشعوب الصغيرة والمستضعفة او المستهدفة من انظمة قمعية او عنصرية او من
قوى تكفيرية وبدائية ضالة فانها ليست بجديدة على أحد ولابد ان ذاكرة الكثير
من سياسيينا تشهد وتحفظ للغرب ( الكافر ) ومؤسساته الانسانية سعة الصدر
وتدين له بحفظ أرواحهم وكرامتهم يوم ضاقت بهم ارجاء وطنهم التي احالها
الطغاة الى رحاب للموت والقهر والرعب مما اضطر الكثير من الدول ومنها الدول
الغربية لفتح ابوابها لهؤلاء الهاربين من سيف الجلاد لينعموا هناك بالحياة
الكريمة على اراضيها وينهلوا من قيم الديمقراطية الغربية ويتفيئوا في
ظلالها الوارفة ويستنشقوا نسمات الحرية في افقها الرحب ، فهل ان احتضان
الغرب لهؤلاء في حينه كان مشبوها ام انسانيا ؟ ومن جديد نسأل بعض نوابنا
الجهابذة : بماذا يصفون مبادرة (الغرب الكافر وعديم الضمير) يوم انبرى
لحماية جزء مهم من الشعب العراقي في كردستان العراق من خلال ايجاد منطقة
امنة له ليكون في منأى عن بطش السلطة في العام 1991 بعد فشل انتفاضة الشعب
العراقي ضد نظامه الدكتاتوري في شمال الوطن وجنوبه ؟ . وبماذا يصفون التدخل
العسكري الواسع لحلف الناتو في نزاع كوسوفو قبل سنوات لردع الجانب الصربي
وحماية اهالي الاقليم المذكور على اثر المجازر التي ارتكبت هناك مع ان
الاقليم المذكور ذي الغالبية المسلمة كان عبر التاريخ جزءاً لا يتجزأ من
الاراضي الصربية ؟ وبماذا يصفون موقف الغرب واستعداده الدائم (حكومات
ومؤسسات انسانية) لاستقبال ألاف اللاجئين سنويا بمختلف اديانهنم وجنسياتهم
القادمين من الشرق وعلى وجه التحديد عالمنا العربي والإسلامي ، الهاربين من
جحيم الأنظمة السياسية والواقع الاقتصادي والحياتي السيئ والتعامل معهم
بإنسانية رفيعة لم يألفوها في أوطانهم والأخذ بأيديهم وتامين سبل العيش
الكريم لهم ووضعهم في مسار الحياة الصحيح ؟ ماذا يقولون في تلك الجموع
الغفيرة المهاجرة التي تلوذ بالغرب وتحتمي بقيمه وإنسانيته وتقصد واحات
الحرية فيه طامعةً وتواقة إلى رغيف خبز معجون بالكرامة على أرضه ، عازفة عن
أوطان لم تجد فيها سوى فقرها وبؤسها ومذلتها ولم تعد تلك الأوطان بالنسبة
لها الا سجناً كبيراً بعد ان عاث فيها الفقر والإرهاب والأنظمة السياسية
خراباً فأصبحت وبالاً على أهلها وأصبح الانتماء إليها قيدا وعبئاً على
أحرارها وشرفائها ؟ ماذا يقولون في هؤلاء ؟ أعملاء ومشبوهون وخونة لأوطانهم
؟ أم مرتدين موالين للغرب ؟ وهل للغرب فيه أغراض استعمارية ومخططات تآمرية
؟من المؤكد انهم بشر أرادوا أن يكونوا أحرارا كما أرادتهم الإرادة السماوية
ورفضوا الاستكانة إلى الأبد والقبول بذلهم في أوطانهم فقصدوا ارجاء اخرى من
الارض وجدوا فيها كرامتهم واهتدوا فيها الى إنسانيتهم.
فألى متى تبقى انظمتنا وسياسيونا في أوطاننا البائسة ومنها العراق وبعض
نخبه السياسية التي بيدها اليوم مقاليد الامور تكيل التهم وتسبغ الاوصاف
وتعلق المشاكل على شماعة المستعمر متخذة من نظرية المؤامرة والتحريض وسوء
الظن التي عفا عليها الزمن وما الى ذلك من المفردات والاوصاف الجاهزة التي
مللنا سماعها في عهود سابقة منهجاً وطريقاً وذريعةً للهروب من المشكلة ؟
ومتى تتهيأ لهؤلاء جرأة النظر الى عوراتهم ويتحلون بصراحة الاعتراف بعجزهم
وبانهم قد خذلوا شعوبهم ورعاياهم عموماً وفي مقدمتهم المكونات والاعراق
الاصيلة في هذه الاوطان التي تمثل جذورها ولبناتها الاولى ؟ وهل ان التخوين
والارتياب في كل ما يقدم الينا لانقاذ شعوبنا واسعاف حالنا الرديء والمظلم
ونعته بالمشبوه وغير ذلك من الاوصاف التي يحفل بها قاموس العاجزين
والمفلسين يبقى خطابنا ؟ .
ان ما جادت به قرائح بعض نوابنا في تلك الجلسة لم يكن ما ينتظره منهم
اخوانهم المسيحيون لانه كان مخيبا ًللامال وفق جميع المعايير الوطنية
والانسانية ووفق جميع الشرائع الوضعية والسماوية وينطبق عليه القول
المأثور(سكت دهراً ونطق كفراً) عليه فأننا ندعوهؤلاء ومن على موقفهم الى
مراجعة انفسهم وخطابهم واذا كانوا عاجزين عن تقديم ما يصلح الحال ويعالج
الموقف وينقذ ما يمكن انقاذه فعليهم السكوت وقد قيل (ان عجزت عن قول الجميل
فلا تتحدث بسوء) .عليهم ان يؤمنوا ان كرامة الوطن من كرامة جميع ابنائه ومن
يريد ان يؤسس لمجتمع قويم ووطن حر كريم على قيم الحرية والعدالة والمساواة
غير مقهور او مستعبد ، عليه ان يعامل جميع مكوناته على هدى ونبراس تلك
القيم .
بصراحة وبملء الفم نقولها ان المسيحيين في العراق ومراجعهم الدينية كافة
مع البقاء في هذا الوطن وعلى هذا الثرى الذي شهد ويشهد لمآثرهم وانجازاتهم
والذي احتضن رموزهم واسلافهم ولكن على ان تحفظ لهم كراماتهم ويحافظ على
ارواحهم وممتلكاتهم وان لا يكونوا اقل من الاخرين في أي شيء ولا يكونوا
الخاصرة الرخوة في نسيجه وأهدافاً سهلة الاستهداف من كثيرين بمختلف الصور
وتحت شتى الذرائع الى الحد الذي يحجم فيه البعض عن قول كلمة حق واحدة بحقهم
.
ان ذلك كله مرهون بقيام اصحاب الشأن والمسؤولية بكل عناوينهم ومنهم
البرلمانيون بدورهم الايجابي وواجبهم الوطني والشرعي والانساني في نصرة
المظلوم على الظالم وكل حسب موقعه وإمكانيته ، والنصرة تبدأ من كلمة حق
تقال بحق اخوتهم في الوطن والمصير وانتهاء الى حمل السلاح دفاعاً عنهم .
|