المصالحة الوطنية الحقيقية .. بديل واقعي
عن جدل الاتفاقية الأمنيّة
نبيل شانو
ما انفكت وسائل الإعلام المختلفة ، المرئية منها والمسموعة والمقروءة كذلك
، وخلال الأشهر الماضية عن تناقل آخر أخبار وتطورات وتعديلات الاتفاقية
الأمنية طويلة الأمد مع أمريكا ، أو اتفاقية انسحاب القوات الأمريكية (
مهما كانت تسميتها ) ؛ الكل يدلوا بدلوه تجاهها .. ايجابيتها أو سلبيتها ،
تأثيرها على العراق وسيادته على المديين القريب والبعيد ، انعكاسها على
وحدة البلاد ، إمكانية الحفاظ على مكتسبات المرحلة الماضية والوقوف بوجه
بعض دول الجوار وأطماعها . حتى وصل الأمر إلى المواطن العادي الذي يتمتع
(بفسحة) كبيرة من وقت الفراغ حيث أخذ يدلوا بدلوه حول الموضوع متأثراً
بمرجعياته الدينية أو السياسية ، إن من ناحية الرفض أو القبول دون أن تكون
لديه أية معرفة مسبقة حول فقرات وتفاصيل تلك الاتفاقية ! ، حتى أمسى
المجتمع العراقي وكرد فعل عليها ضمن خندقين متضادين : خندق المؤيدين في
مقابل خندق المعارضين ، وكأنما عراق اليوم بحاجة إلى خنادق جديدة لتقسيم
المقسم وتجزئة المجزأ !! .
إن المشكلة التي يحاول البعض
إثارتها أثناء تناوله لمسألة الاتفاقية وجعلها من المسلمات ومفادها أن عراق
اليوم أمام مفترق طرق .. فأما الهيمنة والسيطرة الأمريكية طويلة الأمد ، أو
الذوبان ضمن الهيمنة الإيرانية ، وهذا الطرح بعيد عن الواقع كونه يعتمد على
متغيرات وتطورات غير مضمونة النتائج ، فأمريكا على سبيل المثال سوف ينتهي
التفويض الممنوح لها من قبل الأمم المتحدة مع نهاية العام الحالي ويمكن أن
تترك العراق لانتفاء غطاء وجودها ، إلا إذا طلبت الحكومة العراقية من مجلس
الأمن تمديد فترة بقائها وبالشروط السابقة ، أو أن توقع الاتفاقية ليصبح
تواجد تلك القوات مشروعاً ، أو أن تقوم الإدارة الأمريكية الجديدة بتغيير
سياساتها تجاه العراق بالانسحاب أو بتخفيف تواجدها في أحسن الأحوال ؛ أما
ما يخص إيران فيمكن تحجيم دورها في الداخل العراقي بتغليب المصلحة الوطنية
حتى وإن وصل الأمر إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية معها ، أو إغلاق الحدود
الدولية المشتركة ، أو الاحتكام إلى المجتمع الدولي لمنع التدخل وبالقوة إن
لزم الأمر . وبالعودة إلى أس المشكلة (الاتفاقية) والجدل الدائر حولها نقول
أن المتابع الواعي لما يجري من خلف الكواليس يستنتج أو يلخص العقدة حول
الرفض أو القبول هو عدم ثقة المكونات العراقية أو بالأحرى الكتل السياسية
الكبيرة إحداها بالأخرى ، فالكل لديه أجندات غير معلنة يرغب بتوظيفها
لصالحة دون الإفصاح عنها علانيّة ، فمنهم من أعلن موافقته عليها منذ
البداية ، كونها تحافظ على مكتسباته المتحققة ، ومنهم من يرفضها رفضاً
قاطعاً كونها قد تؤثر مستقبلاً على بعض دول الجوار الحليفة له ، وهناك من
يراقب الوضع عن كثب علّ الكفة تميل لأحد الطرفين فيكون في حل من اتخاذ موقف
قد يؤثر على موقفه في الانتخابات المحلية المقبلة ، أما الأقليات فهي لن
تـُسمع أحداً حتى وإن نادت وصرحت برأيها .
بعد ما أوردنا ذكره أعلاه فإننا
نؤمن بأن ما يحتاجه العراق اليوم للخروج من مأزق القيل والقال والسجالات
التي لا طائل من ورائها ، ابتداءً إعادة الثقة بين مكوناته العديدة ،
فالقائمون على التفاوض من أجل اتفاقية مع هذه الدولة أو تلك وغيرها من
قرارات وقوانين مؤجلة تدخل في صلب حياة المواطن ، الأخذ بالحسبان عدم
جدواها أو فائدتها طالما بقيت حالة التشكيك والمصلحية الذاتية بين أولي
الأمر من المسيطرين على المشهد الداخلي ، ناهيك عمن هم خارجه ، بمعنى آخر
نحن أحوج ما نكون إلى مصالحة وطنية حقيقية قبل كل شيء ، مصالحة تجدد فكر
الكل وتزرع فيهم المحبة لأشقائهم في الوطن ، مصالحة تآلف بين قلوب عماها
الثأر والانتقام ، مصالحة تقرب النزيه والحريص على وطنه وتقاضي من أساء
ويسيء بحق الوطن والمواطنين ، مصالحة تمسح أدران الماضي وتفتح الآفاق على
مستقبل مشرق ، مصالحة تسمح للعمل على أساس الكفاءة وليس الولاء لهذا الطرف
أو ذاك أو لهذه الأجندة أو تلك ، مصالحة تجعل المواطن مؤمناً بالمستقبل
المشرق لبلاده عله يعوّض ولو قليلاً الكثير مما فاته . إن مسألة المصالحة
اليوم أصبحت أعقد من ذي قبل ، بعد كم الدماء والقتلى وانتهاك الأعراض
والفساد والتهجير والإقصاء ، فإن كانت المصالحة في الأمس القريب يمكن أن
تنحصر بين من فاز بالسلطة وبين من خسرها ، فأنها اليوم وبعد كم العنف الذي
أشرنا إليه فهي بحاجة إلى أن يشارك فيها جميع العراقيين بقلوب مفتوحة ، إذ
لم يعد من المجدي التساؤل : نتصالح مع من ؟ أو أن فلان لا يستحق الجلوس
والمصالحة معه ، أو أن فلان عميل وفلان خائن وفلان مجرم !! ، عليه فيحتاج
العراقي أولاً إلى المصالحة مع نفسه وضميره ، ومن ثم التوجه للمصالحة مع
الآخرين ؛ وهنا ننوه إلى أن بذرة الشمولية المعششة في قلوب وعقول الكثيرين
من أصحاب القرار قد تؤدي إلى انتكاسات جديدة ، فحال توفر ظروف مناسبة للبعض
سنلاحظ عودة الشمولية والديكتاتورية بكافة صورها المظلمة مع ما يرافقها من
إراقة للمزيد من الدماء ، كون أن منظومتنا القيّمية الثقافية والاجتماعية
لا تتوقف عند حد التصادم بالجدل وحده ، إذ لا بد أن يتبع ذلك تصادم عنفي
يجر علينا وعلى البلد ويلات المواجهات العقيمة .
إن المصالحة الوطنية الحقيقية هي صمام
الأمان لمستقبل العراق ، فعن طريق تلك المصالحة ستتمكن جميع الأطراف
متعاونة من رسم سياسات موحدة استنادا إلى الهوية الوطنية تمكنها من مجابهة
أية مخاطر حالية أو قادمة ، سواء كانت مختبئة ضمن ثنايا المعاهدات
والاتفاقيات المزمع توقيعها ، أو تجاه ما تضمره بعض دول الجوار ، فالعراق
لن يستقر ويعمر بالأمنيات الطيبة والأحلام الوردية فقط ، بل بالفعل والنيّة
الصافية ومن ثم بسواعد أبنائه .. كل أبنائه ..
|