حينما تكون السكاكر منطلقا لحوار بين الأديان
رواية تستعيد ذاكرة مدينة لا تلتفت لحاضرها وتمضي طائعة
لمستقبلها

زوعا - سامر الياس سعيد
حقق المسلسل السوري باب الحارة عبر جزئه الثاني الذي عرض في شهر رمضان
الماضي أعلى نسبة مشاهدة في اغلب الأقطار العربية وفي مدينة الموصل كانت
نسبة المشاهدة قريبة لدرجة الاكتمال الأمر الذي دفع كثيرين للتساؤل حول
ماهية الشعبية ومن يقف وراء تلك النسبة العالية من اتحاد وجهات نظر تجاه
احداث المسلسل المذكور لكن لسان الحال يشير الى ان الأجواء التي ركز عليها
المسلسل المذكور من خلال التركيز على الحارة وما يكتنف شخصياتها من إرهاصات
إنسانية تتباين بين عاملي الخير والشر هي الأساس في توحيد آراء
الموصليين لأنها عالجت واقع محلتهم التي جمعتهم في أزمان مختلفة وبينت
تباين شخصيات تلك المحلة التي شهدت مراحل طفولتهم وفتوتهم وكان المسلسل
بمثابة تسليط للضوء على العلاقات الإنسانية التي يمكن ان تنطلق نحو تحقيق
رسالة المحبة التي غالبا ما يكون لها فعل الانتصار .. رسالة باب الحارة
ومدى ارتباط المخرج بحارته هو المدى الذي جعله يغوص عميقا في كل شاردة
وواردة من تلك الدراما الإنسانيةو هي ذاتها نفس الفكرة التي دفعت الروائي
سالم صالح سلطان لان يدفع للقاري بتجربته الروائية الاولى التي عنونها
(سكاكر البرجس ) فهو يكشف لمن يقراها قراءة اولية أمرا واقعيا أراد من
خلاله الروائي بلورة مدينته كفضاء واسع يجمع الأديان والرسالات السماوية
في ملتقى حواري لاتعرف له حدود كل القاعات والمنتديات التي تنظم مثل تلك
الحوارات واللقاءات بل هنالك على رأس الجسر العتيق وفي كف عبد البرجس
تكمن تلك الواقعية حينما تلتقط كف المسلم مع المسيحي مع الايزيدي سكاكر
بطعم المحبة يقدمها هذا الشيخ غريب الأطوار ..يصف سالم صالح سلطان عمله
برؤية نحو طرح تقصيص روائي بشكل معالج للشخصية التي تمسك بالكثير من خيوط
الاحداث لذلك فالرواية المذكورة تؤثث ذاتيا على أفكار فلسفية وشعرية
لكنها في المقابل ليست متضادة ..الرواية التي انطلقت من مخيلة الكاتب بناءا
على أمور حدثت في مدينة الموصل ورصدها بشكل يقارب حركة سينمائية تجول
لترصد شخصية( عبد البرجس) الذي كان يقف على رأس الجسر العتيق في الموصل
حاملا على كتفه جوالا فيه سكاكر بلون احمر يوزعها على كل من يلتقيه
ويحدد يوما لكل من المسيحي والمسلم والايزيدي لكي ينثر عليه تلك السكاكر
وفي المقابل كانت الدهشة تعلو محيا كل من يلتقي البرجس بهيئته الغريبة فهو
يرتدي جلبابا بلون ابيض لكن الاخير لايظهر بصورة جلية فبلاء الجلباب
واتساخه جعل الابيض يتوارى بخجل على رداء البرجس الذي يظهر بهيئته
المعهودة والتي تميزها ضفائر شعره على شكل جدائل صغيرة وبقاءه عاري
القدمين طوال الوقت .. الواقعية التي استخلص أحداثها الكاتب مقاربة لوجهة
نظر( البير كامو) حينما يؤشر ذلك في كتابه المعنون(المقاومة والتمرد والموت
) حيث يقول "مالذي هو اكثر واقعية على سبيل المثال في دنيانا هذه من
حياة الانسان ؟وكيف يتسنى لنا ان نأمل ان نصونها جيدا إذا لم نحفظها
وديعة في فلم واقعي ؟لكن تحت أي شروط يكون هذا الفلم ممكنا ؟انه سيكون
كذلك تحت شروط محض خيالية.في الواقع يجب الافتراض مسبقا بوجود آلة تصوير
مثالية موجهة نحو الانسان ليل نهار لكي نسجل باستمرار كل حركة من
حركاته .وان مجرد عرض هذا الفلم سوف يستغرق العمل كله ومن الممكن ان
يشاهده فقط جمهور الناس المتأهب لتبديد عمره في التفرج على حياة إنسان
اخر بكل ما فيها من دقائق "..
هذه الرؤية كانت مقاربة في تفاصيلها لواقعية كاتب رواية (سكاكر البرجس
) حينما التقط شخصية عبد البرجس ضمن حدود مشاهداته ليرصد حياته ويصورها
بدقائقها ويدون ما ينبس به ذلك الشيخ من رؤية تخترق حدود الزمن في إطار
صوفية تكشف إسرارها لمن يدورون في فلكها وبواقعية ايضا يشير سالم صالح
سلطان الى ان الأمر استهواه ليلاحق ذلك البرجس حتى حدود منزله ليكشف عن
الوجه الأخر الذي يتوارى خلفه فيندهش للعوالم التي تجسدها تلك الزيارة التي
يتفاجيء بها البرجس لكنه سرعان ما يحتوي عنصر المفاجأة ويخرق حاجز السرية
التي يختفي خلفه ..في تلاحق مثير للأحداث تتنفس رواية سكاكر البرجس بملء
الحرية الا من هنات يحتويها الكاتب في إشارة رمزية مرهونة بالظروف
الراهنة لذلك فالكاتب يعتمد إحساس القاريء في تتبع احداث الرواية رغم
ان( بول ويست) مؤلف كتاب(الرواية الحديثة) لايتفق مع هذا المفهوم إذ يشير
الى( عدم كفاية الإحساس حيث ستشكل روايات المستقبل القريب وروايات عصر
الذرة هجوما على علاقات الناس مع بيئتهم وسوف يكون المحيط متاهيا معقدا
تعقيدا مركبا شديدا لمجتمع تقني لكن المشكلة الثابتة هي المشكلة المسماة
بيئة الانسان ) .
وفي خضم إشارة الكاتب سلطان نحو نحوه لأفق التقصيص الروائي ومحاولة
نزوعه المباشر من المجاميع القصصية الى محاولته الانطلاق بمركب الرواية
فهذا الأمر يتناسب مع محاولات الروائيين دمج جميع طرق الكتابة وبناءا على
الحقائق المتاحة فان الروائي لايمكنه بالفعل من فصل رواية المحيط البشري
عن الرواية الأسطورية او ما يصطلح بالفنتازية لذلك فقد خلصت جميع المحاولات
الروائية الى فكرة مؤداها بان المعرفة بعادات الكائن الحي وارتباط
هذه العادات بالمحيط تؤدي الى الربط الحميمي بالصور الضخمة الجذابة ..
وهذا ما يقودنا الى عدم ترك البطل (عبد البرجس) وحيدا في مشهد الرواية
فالكاتب يلحق معه شخصيات تعتمد البرجس محورا ومرتكزا لانطلاق الاحداث
فيما يصطلح عليه ببيئة الرواية حيث يقابل الكاتب البطل بشخصية تبدو في
ظاهرها من خياله لكنها ايضا ترميز مستوحى من وجهة نظر العامة نحو البرجس
وهذه الشخصية المدعوة (حنوشي )يستمد الكاتب واقعيتها بوصفه لهابانه شره
لحضور مجالس العزاء ليتناول ولائمها وتكفي هذه الفكرة لإماطة اللثام عن
السيكولوجية النفسية التي تتيحها احداث الرواية بالاستناد الى يوميات حنوشي
وجريه وراء البرجس لمعرفة حقيقة الاخير الكامنة ..
فضلا عن شخصيات الرواية فان الكاتب أراد من خلال أحداثها ان ينتصر
لقيمة مدينته عبر الرمزية التي يتوارى من خلالها البرجس لتضحي شخصيته
مزدوجة مع واقع المدينة المهملة والتي تكسو شوارعها تلال من النفايات
والغبار وتسودها غمامة سوداء يكتشفها الكاتب لاحقا لكنها لاتنفك على
إخفاء شخصيتها الحقيقية التي تكفيها بأنها مدينة كان لترابها شرف ان
تتوارى في جوفها الأنبياءوالاولياء الصالحين بل انبتت تلك الارض خيرات
ميزتها فأضحت سلة غذاء الوطن ومع تلك الميزات تظل المدينة منكفئة وراء
واقعها الراكد المكبوت رغم انه يحمل روح التمرد التي تغلي كالبركان ..
في قراءة ثانية للرواية اتسمت بالتعمق طرح الكاتب فكرته الواضحة
والمستمدة من توجه الكاتب الفرنسي (جان بول سارتر) نحو مسؤولية الكاتب
تجاه التنبيه اما الكاتب الألماني( بريخت) فحاول ان يلتزم خط التوجيه
بوصفه الذي يمتع والمتعة التي توجه، لذلك نجد عبد البرجس يقول وهو يوزع
سكا كره على الناس: بأنه بحاجة لتخليصهم من شهوة الحرب التي يتعاطونها
معنا منذ قرون ويتابع في موضع اخر فيقول: لقد اعتادوا ان يتعاملوا مع
الأخر في نقطة مخيفة ..
وربما ان الثيمة الاولى لانطلاق الرواية في فكر الكاتب حيث يشير سالم
صالح سلطان الى العام 2000 الذي شهد فيه أولى تباشير انطلاقه في كشف
اللثام عن احداث الرواية المذكورة وفي هذا العام بالذات كانت الحرب تنذر
بأنها على المشارف وكان الوطن يموج تحت وقع التهديدات المتلاحقة وفي الوقت
نفسه كانت وسائل الاعلام تعلن عن ولادات مشوهة من اثر اليوارنيوم
والأسلحة المحرمة الذي استقبلتها الارض بحزن ممض فأطلقت تأثيراتها
السمية في أجساد الناس وخاصة النساء الحوامل الذين انتهين الى ولادات
مشوهة لذلك لم تغب تلك الإشارات عن ذهن سلطان فأراد ان يوججها في سياق
الاحداث من خلال الطفل الذي عثرت عليه (العنود) والذي من دمامته الظاهرة
وصفه حنوشي بالشيطان ..
ختاما مالذي يريد قوله الروائي سالم صالح سلطان من خلال روايته (سكاكر
البرجس )؟.. سؤال اتضحت معالمه ليكون بمواجهة الكاتب عبر لقائين شخصيين
كان الأول بهدف التعارف فيما كان الثاني نتيجة حتمية لاستخلاص نتائج
الرسالة التي دفع بها الكاتب وأراد من خلالها ان ينثر المحبة تماما كما
فعل بطل روايته من قبل حينما نثر سكا كره على الموصليين فظلت صورته راسخة
في ذاكرتهم لكن الظروف المتتالية وغيابه عن محيط تواجده غيب معه تلك
الذكرى فأطلقها مجددا الى العلن ظهور رواية (سكاكر البرجس) وقد توسط
غلافها الأول صورة ل (عبد البرجس) في مشهد أزلي لايتقارب مع الفنتازيا
التي اختتم بها الروائي حبكته الدرامية متخذا الماضي والحاضر والمستقبل
خطوط شروع لجعل مدينة الموصل ماثلة للعيان وعلى أرضها الطاهرة الطيبة
تتحاور الأديان بلغة التسامح والتجاور الممزوجة من علاقات لها طابع سرمدي
لايمكن ان تنفصم عراها الى ابد الابدين ..هذه المدينة التي تلبست كيان
الكاتب فوجه اتهاماته الى الروائيين تحديدا بأنهم قصروا بما سال من مدادهم
نحوها ولم يتمكنوا من الإحاطة بكل ما مر بها من احداث وظروف لكن تلك
الاتهامات كما يصفها الكاتب نفسه لايمكن ان تفسد للود قضية ما دامت المحبة
هي رأسمالنا الحقيقي نحو قبول الأخر والاعتراف بالمجهود الأدبي الذي اتسعت
له باقي الفنون الأدبية وخاصة مجال القصة القصيرة فكانت تضم في فلكها
إبداعات لرواد عرفوا ان يلموا ما حفل بواقع المدينة سواء ما ارتبط عبر
فترة العقد او ما جاوزه تلك الفترة الزمنية بأعوام وأعوام ..
|