رقيــــق الطفـــولة العراقيـــة
نبيل شانو
هناك لحظات يفقد فيها الإنسان السوي صواب عقله تجاه حالة أو أخرى ، لسبب أو
لآخر ، ويلجأ لمعالجة تلك الأسباب بالعودة إلى غرائزه البدائية لحماية نفسه
ومن يحب ، وعلى الرغم من ذلك فقد يتطلب التصرف السليم أحياناً التضحية
بالمحضورات للإبقاء على الضرورات ؛ ففي آخر تطورات الوضع العراقي الداخلي ،
ما كشف عنه صحيفيان سويديان عن قيام إحدى النسوة العراقيات ببيع رضيعتها
لقاء (500) دولار نتيجة الفاقة ! نقول هنا إن من غير المستبعد أن تكون هذه
"السوق" موجودة وناشطة منذ فترة ، ولا أحد جرء على كشفها (الإعلام المحلي
تحديداً) حتى قام أولئك الصحفيون الغربيون "كالعادة" بمط اللثام عنها ؛ بعد
تلك الحادثة بأيام قليلة يظهر أحد العراقيين المعاقين ومن إحدى الدول
المجاورة وهو يعرض إبنه الصغير للبيع !! ؛ تأتي هذه الأنباء في وقت وكأن
رمضاء وضع البلد بحاجة إلى نار تزيدها إتقاداً .
لقد أعيد إلى ذاكرتنا ونتيجة لهذين الخبرين ، حال الإنسانية في
الماضي البعيد والمتوسط يوم كانت المجتمعات في الغالب تتكون من طبقتي
النبلاء والعبيد ، حيث كان العبيد يباعون ويشترون في الأسواق "كما هي الحال
مع بقية البضائع" ؛ المهم في الموضوع أن "هذين الخبرين" لم يحضيا بالإهتمام
الإعلامي الداخلي اللازم ، وأين هي صحافتنا الوطنية من هذه الأحداث وما
يشابهها ؟ ، أم هي متأثرة بالمقولة "دع الخلق للخالق" ؛ ولا حتى ردود
الأفعال المجتمعية الداخلية التي لم تكترث كثيراً بها ، وكيف يسمح المجتمع
وبعد ظهور مثل هكذا تصرفات ، دون إبداء أي رد فعل لإعادة الأمور إلى نصابها
، أم أن الخطوط الحمر الأخلاقية قد أزيحت عن موقعها ، لتتوسع دائرة مثل هذه
التصرفات ، فكل الأحداث والتصرفات المنافية للواقع الأخلاقي المتعارف عليه
تبدأ بحادثة واحدة ، ثم لا يلبث ذلك أن يصبح أمراً واقعاً أو عادياً لا
يستنكره المجتمع ؛ ربما يكون عدم الإهتمام ذاك مفهوماً وإنعكاساً طبيعياً
للوضع الراهن ، فالأرقام العالمية وكنتيجة للوضع العراقي منذ عملية
"التغيير" تشير إلى مليوني أرملة ، وخمسة ملايين يتيم ، ومليون شهيد ،
وملايين أخرى مهجرة بين الداخل والخارج ، هذا بالإضافة إلى نتائج الحروب
السابقة ، بحيث لم يتبق هناك كثير متسع لأحزان إضافية ، حتى وإن تعلق الأمر
ببيع وشراء "البشر" ؛ فنحن حتى وأن أقررنا بأن هذه الأرقام مبالغ بها ، ولو
إعتبرنا أن "نصفها" أقرب إلى الواقع ، مع ذلك تبقى الحالة إستثنائية ،
وتبقى الأرقام مرعبة بأثرها تشير إلى واقع مرير ومختل ، فكيف ينعكس ذلك على
أخلاقيات المجتمع ، وبالنتيجة قيمه وثوابته ؟ . ربما من الضروري أن نتطرق
إلى الأسباب الموجبة التي أدت إلى هذه النتائج الكارثية ؛ فالظروف التي مرّ
بها هذا المجتمع خلال العقود الخمسة أو الأربعة الماضية ، وما تخللها من
حروب وحصار إقتصادي وحكومات شمولية ، قيدت وإلى حد كبير الإنفتاح الثقافي
والإقتصادي اللازمين للتقدم المجتمعي ؛ وإذا كان لكل سبب مسبب ، فالمسبب
هنا هو الحاجة ، فعندما تبلغ الحاجة مدياتها القصوى يغيب الوعي ، بحيث
تتكسر الأواصر والوشائج اللازمة للحفاظ على الفضيلة ، وبالتالي يدخل كل شيء
في باب العرض والطلب ! ، وهذا ما لمسناه في بعض التصرفات "الشاذة" الحديثة
، كما في حالة المرأة في بداية مقالنا ، حتى إن صفة الأمومة قد لطخت بالعار
نتيجة لذلك الفعل ، فالأمومة هي مصدر الحياة ، وهي "مقدسة" في عرف الكثير
من الحضارات الإنسانية ؛ وهنا نقول أن العتب لا يقع بالضرورة على الأم التي
باعت فلذة كبدها ، "لتعيش إحداهما إلى حين ، والأخرى تذهب إلى مصيرها
المجهول" ، إنما العتب على من يؤمل الناس بالعيش الرغيد ، وكم أ ُمِل هذا
الشعب بالعيش في "بحبوحة" سابقاً ــ وتلك إحدى مسئوليات الحكومات في العالم
تجاه شعوبها ــ وبقاء حالة العوز والفاقة لدى الغالبية العظمى من أفراد
المجتمع يؤدي إلى الإخلال بالتوازن الأخلاقي ، وبالتأكيد سوف ينحصر إهتمامه
(المواطن) في "بطنه" ، ولا يفكر أو يكون جزءاً في رسم السياسات "العليا"
للوطن الغني والقادر على معالجة مشاكل أصعب من الجوع والفاقة . وإذا كان
الشيء بالشيء يذكر نقول أن العراق غني وبمختلف الثروات ، في المقابل نلاحظ
معاناة أغلبية المواطنين من فقر مدقع ، وذلك ما رسخ حالة الإزدواجية في
الشخصية العراقية الحالية ، كذلك فقد مرّ هذا البلد بكوارث وأزمات متلاحقة
وعديدة لم يتعلم منها ــ ذلك ما يبدو على أرض الواقع ــ شيئاً ، فإذا كنا
لم نتعلم من الجوع والدمار والتجاوز على المحضورات والأقسى الموت ؛ فأي شيء
سيجعلنا نعيد حساباتنا ونصبح مثل خلق الله الآخرين ؟ ...
إن خطورة وضع مجتمعنا حالياً تكمن في عدم وضع علاج ناجع
"للخروقات" التي تظهر بين الفينة والأخرى ، فعندما "يكسر" أحدهم إحدى
"المحرمات" لسبب ولآخر ، فبالتأكيد سوف يحاول آخرين تقليده ، وبالضرورة
سيعني ذلك تغيير قواعد اللعبة الأخلاقية ضمن المجتمع ، فما كان سابقاً
محرماً ، يصبح ونتيجة الضرورات محللاً ؛ فالحاجة تدفع صاحبها لتجاوز الخطوط
بكافة ألوانها ، ولن يكون الرقيق والمتاجرة بالبشر أولها ...
|