بورصة الأحزاب في العراق

 

                               نبيل شانو

                           

             يقال أن السياسة هي فن الممكن ، هذا الكلام العام قد يسقط الكثير من السلبية على العمل والعاملون في هذا المجال ، فأي عمل سياسي خال من الأخلاق وغير خاضع للقانون إنما هو في النتيجة عملية نصب واحتيال ؛ وتعتبر الأحزاب في الغالب هي الحاضنة الأساسية للعمل السياسي ضمن أي مجتمع ، ما عدا حالات بسيطة يتولى خلالها سياسيون مستقلون تلك المسؤولية ، لذلك فالأحزاب هي الجهات التي تؤثر إيجابا أو سلباً في التوجه العام للمجتمع عن طريق نشر فكرها وأهدافها بهدف التأثير على الرأي العام وحشده لتأييدها للوصول إلى المواقع الأمامية للسلطة وبالتالي تحقيق تلك الأفكار والأهداف . في المجتمعات التي تؤمن بحرية الفكر والممارسة من حق أي فرد أو مجموعة أفراد تشكيل حزب أو جبهة أو تجمع تستطيع من خلاله إضافة ما تعتقد أنه يخدم ويعمل بصورة أفضل والتنافس ديمقراطياً مع الآخرين لكسب ثقة ذلك المجتمع . والعراق بعد عملية التغيير شهد ويشهد " تخمــة " في أعداد الأحزاب المشكلة ، ناهيك عن الأحزاب الموجودة أصلاً ، حتى وصلت تعدادها الآن إلى المئات ( والرقم في حالة زيادة يومياً ) ، منها الكبير ومنها الصغير ، منها من يحمل أجندة في أقصى اليمين وآخرون في أقصى اليسار ، منها الراديكالي ومنها الليبرالي ، ومنها الشمولي الفردي ومنها الديمقراطي ؛ قد يقال أن تشكيل هذا الكم الهائل من الأحزاب هو حالة صحية ودليل عافية وفورة بعد الجمود الذي أصاب العملية السياسية خلال فترة الحكم الشمولي الماضية ، لكن هذا الرأي أبعد ما يكون عن الصواب ودليلنا هو من خلال متابعة الوضع في الدول المتحضرة والمتقدمة إنسانياً حيث لا تتعدى أحزابها العاملة وفي أحسن الأحوال عدد أصابع اليدين ؛ فالمسألة لا تتعلق بالعدد ، إنما بالمنظرين والكوادر السياسية من الصف الأول القادرة على إنتاج الفكر وإقناع الأفراد العاديين به خدمة للصالح العام ، فالعراق الحالي يفتقر إلى سياسيين من ذلك المستوى ( إلا فيما ندر ) قادرين على إخراجه من كل ما يكتنفه من أزمات أمنية واقتصادية وثقافية وفساد مستشر ، سياسيون على وزن المهاتما غاندي الذي حقق للهند استقلالها من الهيمنة الانكليزية والذي استمر ما يقارب من ثلاثة قرون دون إطلاق رصاصة واحدة !! .

        إن العمل الحزبي حالياً في العراق لم يتبلور بشكل جدي لدى النخب القائمة على تشكيل الأحزاب الجديدة لسبب بسيط هو عدم امتلاكها ثقافة العمل الحزبي المحترف نتيجة عقود ماضية من الفكر الشمولي الذي ينكر على الآخر رأيه ناهيك عن منافسته ، لتنتقل هذه الثقافة عبر أشخاص يشكلون جزء من المجتمع الأكبر تأثر بهذه المنظومة القيمية الشاذة والإقصائية الرافضة للآخر ، لتصبح جزء من شخصيتهم كما هي الحال في الغالبية العظمى من أفراد المجتمع وبنسب متفاوتة ؛ فلم يعد الحزب هو الجهة التي تحرص على كسب جماهيريتها من خلال الإقناع ودون إغراءات أو تهديدات وبالتالي توجيهها بدورها لإظهار كفاءة الفرد ليكون مؤهلاً بالتالي إلى التأثير بالآخرين لتجنيدهم ضمن بوتقة الفكر والأجندة المراد تحقيقها ، بل أصبح الحزب ينطلق في كسب جماهيريته اعتمادا على أساسين : الدعم المادي و الإغراء بالسلطة ؛ ففيما يخص الدعم المادي فمن المعروف إن الأحزاب ليست بمؤسسات خيرية تقوم بتفريق الأموال على أعضائها وجماهيرها ومؤازريها ، فعندها تصبح العلاقة بين هذه المجموعة علاقة مصلحة مادية تنتهي مع انتهاء ذلك التأثير المالي والمادي ، حيث يكون العضو الحزبي عضواً طالما تمتع بتلك المكاسب ، وحال زوالها سيبحث بالتأكيد عن جهة أخرى حتى وإن كانت مناوئة للجهة الأولى أيديولوجياً ، ليصبح بالتالي بوقاً معادياً للفكر الذي آمن به ردحاً من الزمن وللجهة التي آوته وشملته بحمايتها ؛ أما مسألة السلطة فمن المعروف أن هناك من يتحين الفرص لإظهار أنفسهم كقادة للمجتمع ( أو هكذا يتخيلون ) ومعظم هؤلاء من أشباه المتعلمين والوصوليون والكسبه وجدوا من حالة الفوضى السياسية الحالية فرصة لإثبات " جدارتهم " أو " حنكتهم السياسية " ليصبحوا بعد حين جزء من المشكلة المضافة إلى الوضع العراقي الهش وليس جزء من الحل ، والمفارقة تكمن في أن بعض هؤلاء لا يترك مناسبة للتطبيل والتزمير بماضيه النضالي ضد الديكتاتورية والشمولية بينما الحقيقة هي أن من بينهم من كان سائراً ضمن خط " الفورة " الماضية أو أنهم كانوا صامتين في أحسن الأحوال !! .

          إن ما يؤلم في وضعنا هو ما يمكن أن نطلق عليه الفوضى السياسية ، وسبب ذلك يتمثل بعدة نقاط جوهرية منها : عدم وجود قانون للأحزاب ينظم عملية تأسيس الأحزاب وعملها بالتالي فقد وجد الطارئون فرصتهم الذهبية لتأسيس أحزاب هي أشبه ما يكون بـ " دكاكين " سياسية مستعدة لبيع أي شيء ، طالما أن  الأمر ليس بحاجة إلى أكثر من بناية مؤجرة ومجموعة من الأثاث ولافتة و " جايجي " !! ؛ في نقطة أخرى نلاحظ أن أغلب الأحزاب المشكلة هي أحزاب مذهبية أو قومية متطرفة مع غياب واضح أو ضعف للأحزاب ذات التوجهات الوطنية والديمقراطية والليبرالية ؛ كذلك ابتعاد أو إبعاد الكوادر الثقافية والأكاديمية المستقلة النزيهة من التي لديها باع في العمل السياسي (التكنوقراط) عن المشهد الدبلوماسي الحالي ، بالتالي استئثار أصحاب الأجندات والأهداف والمصالح على مصادر صنع القرار ، كذلك علينا أن لا ننسى الأحزاب الكبيرة من التي أسست قبل أعوام طويلة وأحاطت بالتالي بخفايا العمل السياسي وتنظيمه والتي كنا نتمنى عليها أن تلعب دور الأخ الأكبر والمحب والموجه للأحزاب الجديدة بما يخدم تطوير البلد ومفاهيم العمل الديمقراطي ، بدل أن تلعب دور الإقصاء والاحتواء ومحاولة دسّ الفرقة بين بعض الأحزاب وقواعدها الجماهيرية ، ومحاولة كسب ضعاف النفوس والمحتاجين إلى لقمة العيش من أجل تمرير أجندتها . قد يكون هناك بعض القسوة والتجني في هذا الطرح لكنها الحقيقة الواقعة ، فمن يرغب في عراق جديد ديمقراطي الفكر والتصرف ، علية التنازل قليلاً عن غلواء مطالبه وخطوطه الحمر من أجل صالح الوطن والوطنية التي هي الضمانة الوحيدة لمستقبل زاهر للجميع دون استثناء ....

 

 

Home - About - Archive - Bahra  - Photos - Martyrs - Contact - Links