الفكر وحركة تطور الحياة
خوشابا سولاقا
قال احد المفكرين والفلاسفة الكبار الانكليزي الجنسية الذي له صيت عالمي
يعرفه كل مثقف ومهتم بشؤون الفكر والفلسفة والسياسة ما يلي: "في كل الاحوال
من المفيد بين الحين والاخر ان نضع علامات استفهام على الاشياء التي كانت
ثوابت على المدى الطويل".
وقال مفكر وفيلسوف
واقتصادي الماني كبير دوخت افكاره ونظرياته في الفكر والاقتصاد والفلسفة
العالم الى يومنا هذا ويحتل مساحة كبيرة على ساحة الفكر وعمت شهرته كل بقاع
المعمورة منذ قرنين من الزمن، حيث قال: "ليس كل ما هو صحيح يكون واقعاً،
وليس كل ما هو واقع يكون صحيحا دائماً".
عند قراءتنا لهاتين المقولتين بدقة وعمق نجدهما مقولة واحدة في المضمون، اي
بمعنى اخر مقولتين بمضمون واحد بالرغم من كون القائلين ينتميان الى مدرستين
فكريتين مختلفتين وبينهما فارق زمني كبير، لانهما قصدتا موضوعا واحدا وهو
ليس هناك شيء في الحياة سواء كان ذلك في الحياة الطبيعية او في الحياة
الاجتماعية ثابتا لا يتغير وليس هناك ما هو صحيح او واقع على طول الخط
بالمطلق، وانما الصحيح والواقع شيء نسبي وذلك مرتبط بحركة تطور الحياة،
لذلك تؤشر المقولة الاولى على ضرورة وضع علامات استفهام على الاشياء التي
كانت ثوابت لمدى طويل من الزمن، لانها ستتغير حتما في المستقبل وتصبح على
غير ماهي عليه الان، وتؤشر المقولة الثانية على كون ماهو صحيح اليوم ليس
بالضرورة ان يكون واقعا على الارض في الوقت نفس وماهو واقع على الارض ليس
بالضرورة ان يكون صحيحا على وفق المعايير السائدة في واقع اليوم، كل شيء
معرض للتغير والتبدل، وبالتالي يعني الامر ان الاشياء في حالة تغير مستمر
لا ثبات لها وذلك التغير مرتبط بحركة تطور الحياة بكل مكوناتها.. في كل
النظم الاجتماعية تشكل الثقافة والفكر والادب والفن والفلسفة والقيم
والتقاليد والأخلاق الاجتماعية البنية الفوقية للنظام الاجتماعي السائد
وبطبيعة الحال تكون هذه البنية إنعكاساً لواقع التفاعلات والتجاذبات
والصراعات والتناقضات للبنية التحتية لهذا النظام والمتمثلة في شكل وطبيعة
النظام الاقتصادي السائد والذي يحدد علاقة وسائل الانتاج للخبرات المادية
للمجتمع بالقوى العاملة فيه، والنظام الاقتصادي يعتبر الأساس المادي لحركة
تطور المجتمع، وما البنية الفوقية إلا وسائل لتبرير شرعية نظام الانتاج
واستمراره وحمايته والدفاع عنه. وهكذا تتشكل العلاقة الجدلية بين البنية
الفوقية والبنية التحتية للنظام الاجتماعي وعند العودة الى دراسة تاريخ
تطور وتحول النظم الاجتماعية التي مرَّ بها المجتمع البشري سنجد ان هذه
العلاقة تعبر عن نفسها بوضوح في البنية الفوقية للنظام الاجتماعي لكل مرحلة
من مراحل التاريخ، لذلك يكون أي تغيير تطوري يحصل في اي مفصل من مفاصل
البنية التحتية للنظام الاجتماعي ينعكس بالضرورة حتماً على شكل وطبيعة
البنية الفوقية له، وبذلك لايمكن أن يكون هناك ثابت مطلق في أي مفصل من
مفاصل البنية الفوقية للنظام الاجتماعي، فكل شيء في حالة تغير مستمر بما في
ذلك حركة الفكر. لأن الاحداث التي تحصل في الطبيعة وفي الحياة الاجتماعية
تفضي الى تغير وتبدل وإختفاء أشياء وظهور اخرى جديدة بشكلها وطبيعتها
تقتضيها الحياة الجديدة، هذه الحركة تجعل الأنسان الذي من المفروض به أن
يتصدى لها ويستوعبها، ومن ثم يتواءم معها ويطاوعها لمتطلبات حاجاته
الحياتية الجديدة أن يفكر وأن يعيد صياغة افكاره بأنماط ونسق جديدة تلائم
الوضع المستجد، وهذا المنطق في البحث وراء حقيقة تبدل وتغير الأشياء هو
الذي مكن الأنسان من إنجاز أعظم الاختراعات العلمية في كل مجالات العلم في
الطبيعة والمجتمع ومكنته من إكتشاف الكثير الكثير من أسرار الكون وقوانين
الطبيعة وأفعالها ومكنته من صياغة نظريات فكرية وفلسفية عديدة ومختلفة وكل
نظرية تعبر عن ما ضمنته النظرية التي سبقتها واضافة إليها ما استجد في
الحياة، وهكذا تستمر دورة تطور الحياة الطبيعية والاجتماعية على هذا النسق،
نسق التبدل والتغير الدائم والتحول الكمي والنوعي في حركة تصاعدية على مسار
حلزوني من الادنى الى الأعلى نحو الامام، وتجعل الاشياء في حالة من الصراع
والتناقض فيها كل قديم يولد نقيضه الجديد الافضل وبالتالي فأن هذا الصراع
التطوري والحراك الاجتماعي يفضي الى بقاء الاقوى والأصلح ويزول الضعيف
القديم البالي ويتراجع وينزوي الى متحف التاريخ، وهذه هي سنة الحياة
ومنطقها العلمي في التطور التصاعدي. وبألقاء نظرة عامة على مسيرة التاريخ
سنلاحظ بوضوح تام صحة هذه النظرية، ولكن قراءة هذه المسيرة تختلف من شخص
لآخر حسب مستوى تطور وعيه الأنساني للوجود بحد ذاته وقناعته وإيمانه بما هو
سائد من الأفكار والطقوس والتقاليد والاعراف في المجتمع الذي يعيش فيه.
وخلاصة القول ما أريد قوله هنا هو أنه ليس هناك من فكر أو فلسفة تمتلك
وتجسد الحقيقة المطلقة بكاملها، وإنما مهما بلغت من درجة الرقي والكمال فهي
بالتالي لاتعبر إلا عن جزء من الحقيقة، بمعنى اخر ليس هناك فكر متكامل يصلح
لكل زمان ومكان مهما كانت طبيعة ذلك الفكر، ولايمكن أن يصلح فكر يدعي
الثبات والكمال ان يعيش ويتعامل ويستمر بالبقاء مع واقع متغير لأن ذلك
مخالف لمنطق العقل وسنن الحياة، ولكن بأمكان القائمين على هكذا افكار
والدعاة لها ان يطوعوها لواقع الحياة المتجددة وليس العكس لأن العكس لايعني
بلغة العلم والمنطق إلا شكل من اشكال العبث غير الواعي بقيم الحياة ومنطق
العلم والعقل وحرية الانسان كما يفعل البعض ممن يقراؤون التاريخ بصورة
معكوسة ومشوهة. إن الحياة هي الرحم الحاضن لمصدر الافكار وهي المنبع الذي
منه تولد الافكار ولتأكيد هذه الحقيقة سنجد عند قراءتنا للتاريخ الانساني
أن جميع النظريات الفكرية والفلسفية والاقتصادية والاجتماعية وحتى
المعتقدات ولدت في خضم الصراعات والتناقضات التي حصلت في المجتمع الانساني
بسبب تعارض وتصارع المصالح، وبالتالي سنجد أن الافكار كانت دائما على
امتداد التاريخ ادوات ووسائل للاستحواذ على اكبر قدر ممكن من المنافع
الاقتصادية والمصالح الحيوية والسيطرة على مصادر الثروة والهيمنة على
العالم تحت واجهات براقة مختلفة والدفاع عن تلك المصالح والمنافع وحمايتها
من سطوة الاخرين.. أي بمعنى اخر استعملت الافكار والمعتقدات كأدوات في
الصراع من أجل المنافع والمصالح والسيطرة على العالم تحت واجهات ذات شكل
خيري وإنساني ومضمون نفعي استغلالي غير أخلاقي يتنافى مع قيم الحضارة
والحرية والعدالة والمساواة وحقوق الأنسان، هكذا كان الحال مع الأفكار التي
سادت واصبحت أيديولوجيات لحكام طغاة عبر مختلف فصول التاريخ في جميع بقاع
الأرض دون إستثناء، والذين لا يقنعهم هذا الطرح عليهم العودة الى قراءة
التاريخ من جديد ليجدوا إن ماذكر لايشكل إلا القليل من الحقيقة الكاملة
التي من المفروض ان تقال هنا.
|