البطاقة التموينية بين متطلبات اقتصاد السوق والحاجات الاجتماعية "1-2"

 

 

                                                                 د. احمد باهض الحميداوي

                    تعد البطاقة التموينية صمام الأمان في الحفاظ على الأمن الغذائي للاسرة والمجتمع العراقي ككل، ونجحت هذه البطاقة في توفير الحد الأدنى من ذلك الأمن سواء في عهد النظام السابق أو ما بعد سقوط ذلك النظام بالرغم من الاستخدام البشع لهذه البطاقة في الضغط على حريات العراقيين اثناء حكم النظام السابق وماتلاه من تبديد وهدر وسرقة لمواردهم.

وكان الأمل أن يتم تنظيم تلك البطاقة واستثمار نظامها الجيد من أجل تحسين مستوى المعيشة للفرد العراقي من خلال تنويع مفرداتها وتحسين نوعيتها لكن الذي حصل واقعا عكس ذلك، اذ اصبحت هذه البطاقة مصدرا للافساد والفساد في المجتمع وتبديدا خطيرا لموارد الدولة العراقية في الوقت الذي يعد فيه العراق بحاجة ماسة لكل موارده المالية من اجل اعادة اعماره، ولكن للانصاف والحقيقة لابد من القول ان هذا البرنامج الذي طبق منذ اكثر من سبعة عشر عاما كان ومازال يمارس دور المسيطر على سقف الاسعار في قطاع المواد الغذائية، بالرغم من مروره بفترات تذبذب بين التحسن والتوسع وبين الرداءة والتقلص، اذ ان وجوده فقط كان يمارس العامل الضاغط على الاسعار من خلال اشاعة ظاهرة الطمأنينة والاستقرار لدى اوساط شرائح المجتمع المختلفة باعتباره يمثل لهم ضمانة للمستقبل مما لايشجع على خلق حالة من التهافت والتنافس والتزاحم على كيفية الحصول على موارد الغذاء.

واليوم يدور الحديث بقوة بعد التطورات والمتغيرات الاقتصادية الجديدة التي حصلت في العراق عن مدى جدوائية هذه البطاقة من عدمها، خصوصا بعد تطبيق العراق لبنود الاتفاقية المعقودة بينه وبين صندوق النقد الدولي والمتضمنة خطة شاملة للاصلاح الاقتصادي وإعادة هيكلة الاقتصاد العراقي لضمان تحول سلس وسليم نحو اقتصاد السوق، وتأتي هذه الطروحات ليس على الصعيد الحكومي حسب وانما على صعيد المؤسسات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني واوساط الشعب المختلفة، وخصوصا اولئك الفقراء الذين ينظرون الى تلك البطاقة باعتبارها الملاذ الآمن وحصنهم الاخير لمواجهة الارتفاعات المستمرة في الاسعار، ومع ان الجانبين السياسي والامني في العراق يؤكدان حقيقة توافر صانعي القرار على ارادة وتصميم عاليين من اجل تحقيق النجاح فيهما، الا ان المجال الاقتصادي لم يكن بنفس تلك الارادة والتصميم اللتان يتوافر عليهما صانعو القرار في الجوانب أنفة الذكر، حتى أمسينا جميعا نطالب بخطط وفعاليات تشمل الجانب الاقتصادي شبيهه بتلك التي تجسدت في الجانب الامني باعتبار ان الحل الاقتصادي هو مفتاح الحلول لأغلب المشاكل التي تعرقل عملية اعادة البناء والاعمار.

اين يكمن الخلل؟

الحقيقة الاقتصادية التي تقول ان مرونة الطلب على المواد الغذائية لايمكن لها إن تتغير بسرعة إلا بفعل ظروف تتعلق بتغير اعداد السكان والاذواق وتغيرات الاسعار الحادة حتى بات يطلق على هذه المرونة انها تكاد تكون قليلة او متدنية تجاه العديد من المتغيرات، وتفسير ذلك يعود الى ان الطلب على المواد الغذائية يكاد يكون ثابتا في الاجل القصير على الاقل، اذ مايتناوله الناس من غذاء لايمكن له ان يتغير استجابة لتغير السعر مثلا، وهذا بالتاكيد يعطي خصوصية متفردة لها يجعلها تختلف عما هو عليه الحال عن باقي انواع السلع.

من خلال ماتقدم يمكن القول ان معرفة مايحتاجه اي شعب تصبح يسيرة اذا ماحللنا اتجاهات الطلب على المواد الغذائية وبالتالي يمكن معرفة حجم الاستهلاك المتوقع، وفي العراق تم تطبيق هذا الامر عند تطبيق برنامج البطاقة التموينية الى حد كبير، ولكن بقيت الفجوة واضحة لفترات من الزمن بين ما هو مطلوب للاستهلاك وبين ما هو مجهز للمواطنين سواء من ناحية الكمية او النوعية، وشاب هذا البرنامج الكثير من الفضائح وحالات الفساد على المستويين الدولي والمحلي وتحول من اداة داعمة للامن الغذائي في العراق الى اداة لتبديد الموارد المالية. ويمكن تشخيص اهم نقاط الخلل في هذا البرنامج بمايلي:

1. تميز العديد من الاجهزة التنفيذية العاملة بالقطاع التجاري بالضعف وسوء الادارة مع عدم توافرها على الكفاءات المتخصصة، فضلا عن حالات التلاعب والفساد التي تستشري بين العديد من صغار الموظفين والتي تتابعها وزارة التجارة وتعلن عن المحاسبة والرقابة بين الفينة والاخرى.

2. شيوع ظاهرة الاستيراد العشوائي وعدم الاهتمام بالنوعية لأسباب كثيرة كان منها معروفا ايام النظام السابق والتي تتعلق بشراء الذمم السياسية، لكن المشكلة ان هذه الظاهرة قد تكرست وبشكل واضح بعد سقوط ذلك النظام بعد ان كانت الأمنيات تتجسد بالحصول على نوعيات جيدة من المواد الغذائية، وما النوعية الرديئة للشاي والتي تجهز من خلال البطاقة والاصرار عليها دليل واضح وجلي، بحيث ان اغلب المواطنين لا يتعاطون هذه النوعية ويسدون حاجتهم من الاسواق.

3. عدم وجود اطار قانوني او جهة قانونية واضحة وجريئة تتكفل باستحصال حقوق العراق من الشركات المجهزة في حال اخلالها بالمواصفات والنوعيات المجهزة، مما اضعف موقف العراق التفاوضي مع هذه الشركات وشجع العديد منها على التلاعب بالمواصفات والكميات المجهزة في مراحل لاحقة.

4. عدم توافر العراق على اسطول نقل جيد سواء كان ذلك الاسطول بحريا ام بريا، مما جعل العراق عرضة لابتزاز الشركات الناقلة سواء منها البحرية ام البرية فضلا عن حالات التلف و تردي ظروف النقل مع تعرض المواد الغذائية للعوامل الجوية والمناخية، وقد لاحظنا من خلال الرصد اعلان وزارة التجارة سحب العديد من انواع المواد الغذائية بسبب عدم صلاحيتها للاستهلاك البشري.

5. ضعف فعالية الاجهزة الرقابية واقتصارها على وزارة التجارة فقط، دون اشراك حقيقي للمجالس البلدية او منظمات المجتمع المدني مع ان تجربة اشراف المجالس البلدية على توزيع المنتوجات النفطية قد نجحت الى حد كبير.

ما هو الحل؟

من خلال ماتقدم يمكن وضع عدد من الخيارات المتاحة امام صانعي القرار لغرض وضع هذا البرنامج في المسار الصحيح كي لاتضيع الجهود او تتبدد الاموال:

الخيار الاول: استمرار البطاقة التموينية

يتضمن هذا الخيار الابقاء على برنامج البطاقة التموينية مع تحسين الاداء في تنفيذ هذا البرنامج وفقا لمجموعة من الإجراءات والخطط منها:

1. توفير ملاكات متخصصة مدربة وكفوءة لادارة برنامج البطاقة من ناحية التعاقد والتجهيز والرقابة، الامر الذي يدفع باتجاه الارتقاء بالاداء وتجهيز المواطنين بنوعيات ومواصفات جيدة.

2. اختزال مفردات البطاقة التموينية على المواد التالية مع تحسين نوعيتها:

"الرز، السكر، الطحين، الزيت"

3. إلغاء البطاقة عن اصحاب الدخول العالية من الموظفين الحكوميين ممن تتجاوز مدخولاتهم الاربعة ملايين دينار وكذلك التجار والمقاولين العاملين في القطاع الخاص.

4. اشراك الغرف التجارية والصناعية في عملية انتقاء المناشئ الاجنبية للمواد الغذائية وعمليات التعاقد والتجهيز.

5. سن قوانين رادعة تجاه المخالفين من الموظفين المسؤولين عن البرنامج وكذلك وكلاء الحصة التموينية.

6. اشراك المجالس البلدية بعملية الرقابة والاستلام والتجهيز الامر الذي يحد من حالات التلاعب بالمواد ونوعياتها.

7. تشكيل دائرة معلوماتية في كل منطقة تكون مسؤولة عن البيانات المجهزة لوزارة التجارة وتتسع هذه الدائرة لتاخذ على عاتقها الجانب المعلوماتي الخاص ببرنامج الحماية الاجتماعية.

8. اجراء استطلاع دوري لاراء الناس واتجاهاتهم حيال مفردات البطاقة التموينية ونشر نتائج هذا الاستطلاع على الراي العام ومن ثم تعديل السياسات المتبعة وفقا لتلك النتائج.

الخيار الثاني: الغاء البطاقة التموينية على مراحل ويتضمن هذا الخيار الخطوات التالية:

1. إلغاء البطاقة التموينية تدريجيا وبشكل مرحلي بحيث نبدأ من مسؤولي الدولة الكبار ثم موظفي الطبقة الوسطى حتى نصل الى أدنى شريحة في المجتمع.

2. تكون مدة تنفيذ البرنامج لفترة اقصاها سنتين.

3. يتم الالغاء الفوري لمفردات المساحيق والصابون والملح ومن ثم يتم الغاء جميع المفردات باستثناء الرز والطحين والسكر والدهن.

4. يتم الغاء المفردات الاخرى تباعا وبفاصل زمني قدره ستة اشهر بين مفردة واخرى.

5. أن ذلك سيزيد حتما من الطلب الخارجي على المواد الغذائية، وهذا سيصطدم بانعدام مرونة أجهزة الاستيراد والنقل والتسويق التي هي ضعيفة في العراق وبالتالي سيعاني السوق العراقي من شحة في المرحلة الأولى بعد الإلغاء ومن ثم ارتفاع في الأسعار في المراحل اللاحقة والناجم عن ارتفاع كلفة النقل والمخاطرة والوقود، ولغرض الحد من تلك التداعيات ملاحظة مايلي:

* تنظيم واعداد السياسات الزراعية بما ينسجم مع الخطة المذكورة اعلاه بحيث يتم احياء القطاع الزراعي لمواجهة الطلب المتزايد على الغذاء عن طريق الانتاج الزراعي المحلي وهي فرصة مناسبة جدا لتنشيط الزراعة وتوفير فرص العمل والحد من التضخم.

* اطلاق وتشجيع قيام شركات نقل عملاقة عن طريق تقديم التسهيلات الحكومية للقطاع الخاص من اجل تنشيط المبادرة فيه وتاسيس شركات النقل القادرة على القيام بمهام النقل والتسويق.

* عدم احتكار استيراد المواد الغذائية من قبل عدد من التجار المتنفذين في الاسواق ومن ثم على الحكومة ان تمنح اجازات الاستيراد وعلى نطاق واسع لمن يرغب باستيراد المواد الغذائية من التجار وتقديم التسهيلات المناسبة لهم مع وضع المعايير الخاصة بالنوعية المستوردة.

* سن قانون يتضمن اقرار حصة لكل مواطن عراقي من الايرادات النفطية يزداد بزيادتها وينخفض بانخفاضها وذلك لزيادة الشعور العام بان هذه الثروة هي ملك لجميع العراقيين.

 

 

Home - About - Archive - Bahra  - Photos - Martyrs - Contact - Links