قطــب واحــد .... أم قطبــان
نبيل شانو
بعد
الحرب الكونية الثانية ، برزت إلى الساحة الدولية قوتين عالميتين حاولت كل
منهما الاستئثار والهيمنة على قرار أكبر عدد ممكن من دول العالم إلى صفها ،
لنشر ما تؤمن به من مفاهيم وأفكار وسياسات اقتصادية لتحظى بالتالي بالسطوة
والقوة لتنفيذ أجندتها المعلنة منها وغير المعلنة ؛ إحدى هاتين القوتين
تمثلت بالاتحاد السوفييتي ذو الفكر الشيوعي والسياسات الاقتصادية
الاشتراكية الهادفة إلى إلغاء مبدأ الطبقات في المجتمع ، أما القوة الثانية
فكانت (ولا زالت) الولايات المتحدة الأمريكية ، الدولة الرأسمالية الأولى
في العالم وصاحبة النظام الاقتصادي الأقوى والمؤيدة للديمقراطية وحقوق
الإنسان . وبخصوص علاقة كلا القوتين بـ " أتباعهما " من الدول الأخرى فلم
يكن الهدف منها الرقي بواقع مجتمعاتها (وإن ظهر ذلك شكلياً) إنما الهدف
الأساس كان البحث عن مواقع النفوذ لمواجهة " المعسكر الآخر " والوقوف بوجه
أطماعه وامتداداته ، فحلفاء الإتحاد السوفييتي مثلاً كانوا في الغالب
يمثلون أنظمة شمولية قمعية تقوم بكبت الإبداع الفردي غير الموجه لصالح
السلطة القائمة والفقيرة أصلاً اقتصاديا وثقافياً ؛ أما حلفاء الولايات
المتحدة الأمريكية فكانوا في الغالب أيضاً أنظمة دكتاتورية فاسدة تعمل على
تعميق الهوة الاقتصادية بين طبقات المجتمع المختلفة ( الغنية والوسطى
والفقيرة ) . وبعيداً عن هذه المقارنة هناك نوعية ثالثة من الدول بقيّت
خارج تأثير القوتين العظميين لسببين وجيهين أولهما عدم تمتعها بموقع جغرافي
مهم يسمح لها لعب دور مؤثر على الساحة الدولية ، وثانيهما كون تلك الدول قد
بلغت مرحلة متقدمة من النضج السياسي الديمقراطي حيث يشترك جميع أفرادها في
صنع قرارها تجاه الشؤون الخارجية وعدم حصر مصالحها بدولة خارجية بعينها
مهما بلغت إمكاناتها وقوتها وسطوتها .
بعد فشل تجربة الاتحاد السوفييتي السابق وتفتته إلى دول عدة في أوائل
العقد الأخير من القرن الماضي ، انفردت أمريكا كقطب أوحد في العالم لتتشكل
حقبة جديدة غير مسبوقة في العلاقات الدولية ، حيث عملت على الإنفراد
بالقرار العالمي نظرياً وعملياً ( على الرغم من محاولتها الإيحاء بعكس ذلك
) ، وقد كان من ضحايا ذلك الإنفراد عدة دول وأنظمة معارضة للسياسات
الأمريكية وعلى رأسها العراق بالإضافة إلى يوغسلافيا السابقة وأفغانستان ،
حيث قامت بتغيير الأنظمة في الأولى والأخيرة وتقسيم الثانية إلى عدة دول
عرقية ومذهبية ؛ فكان من نتائج هذه السياسة أن أدت إلى استفزاز ومن ثم
تفعيل عمل المتطرفين والقيام بضربة غير مسبوقة على الأراضي الأمريكية في
الحادي عشر من أيلول وفي عقر دارها ، تلك الضربة التي غيّرت وجه العالم حين
استهدفت مركزاً اقتصادياً مهما ( برجي التجارة العالمية في مدينة نيويورك )
وكذلك بناية وزارة الدفاع ( البنتاغون في مدينة واشنطن ) .
هنا وبعد ثمانية عشر عاماً من " الانطواء " عادت القوة الأخرى روسيا
الوريثة الشرعية للإتحاد السوفييتي السابق ، عادت وفي جعبتها ترسانة نووية
هائلة لتذكر العالم وأمريكا على وجه الخصوص بأنها موجودة ، ليس بصيغة نظام
اشتراكي هذه المرة إنما بنظام ديمقراطي " إلى حد ما " وعولمة اقتصادية وقوة
عسكرية لتذكرنا مجدداً بأجواء الحرب الباردة ، وتمثل ذلك بأوضح صوره في
أزمة القوقاز كرد سريع لمساندة أمريكا استقلال إقليم كوسوفو في البلقان ،
واليوم المواجهات والانتقادات المتبادلة على أوجها بين الطرفين، وهذه
التطورات جاءت لتصب في مصلحة عدد من الدول ذات الأنظمة المعادية لتطلعات
الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها وليفتح باب الاستقطاب من جديد على
مصراعيه . لقد أثبت الوضع الدولي فشل نظام القطبين سابقاً وكذلك القطب
الواحد في الأمس القريب على حدّ سواء ، بسبب من سياسة المصلحة العليا لأحد
الأقطاب أو كليهما ، بمعنى أن أي من القطبين في تعامله مع الآخرين يسعى من
خلال تلك العلاقة إلى تحقيق مصالحه المادية الإستراتيجية فحسب ، وليس نشر
الفكر الإيجابي الذي يخدم البشرية ويحسن من تطورها وتقدمها الحضاري ؛
والمؤشر يدل على أن الأمر في المستقبل القريب سيتحول من هيمنة قطبين حالياً
إلى عدة أقطاب بظهور قواً جديدة على الساحة الدولية مثل الإتحاد الأوروبي
والصين والهند ، وهذا ما سيزيد من احتمالات التصادم بين تلك القوى العظمى
للحفاظ على مصالحها والسيطرة على الثروات الناضبة ، ذلك التصادم الذي سيكون
بالضرورة بأسلحة غير تقليدية تؤثر بالنتيجة على فرص نجاة النوع الإنساني .
عليه يجب التفكير وبجدية لاستنباط قانون
دولي جديد عام ينظم العلاقة بين الدول والمجتمعات فيما بينها استنادا إلى
حرية القرار والعدالة ونشر الفكر الديمقراطي وحقوق الإنسان بين كافة الشعوب
وليس من مبدأ التابع والمتبوع ، وكذلك منع تحكم مجموعة قليلة من الدول
المتقدمة بمصائر الأغلبية العظمى من سكان البشرية ، لأن الجميع قد ولدوا
أحراراً .
|