الركائز والاسس القويمة ومحاولات نسفها
حميد
الموسوي
ما نقلته وتنقله المصادر الاسلامية الموثوقة والمعروفة لدى المسلمين
بمختلف مذاهبهم وقومياتهم عن علاقة الرسول الكريم وخلفائه والائمة من بعده
بالمسيحيين اكثر من ان يحصى، علاقة قامت على المودة والاحترام والحماية
والحرية. أمر بتلك العلاقة الطيبة القرآن الكريم ونفذها الرسول وصحبه واهل
بيته: "... ولتجدنّ أقربهم مودّةٍ للذين آمنوا النصارى...".
وحكاية نصارى نجران وكيف ان الرسول كتب لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم من
محمد النبي للاسقف ابي الحارث واساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وكل ما تحت
ايديهم من قليل او كثير. جوار الله ورسوله.. لايغير اسقف من اسقفيته، ولا
راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم وسلطانهم،
ولا مما كانوا عليه من ذلك جوار الله ورسوله ابدا ما اصلحوا ونصحوا، غير
مبتلين بظلم ولاظالمين".
وحكاية وفود نصارى "الشهباء" و "العقبة" الذين كتب لهم الرسول بحضور
الاسقف يوحنابن رؤبة والاساقفة والكهنة المصاحبين لتلك الوفود: "هذه أمنة
من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنابن رؤبة واهل ايلة "العقبة"، سفنهم
وسياراتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي ومن كان معهم من
أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر". ثم توالت الوفود المسيحية معاهدة
ومحاورة وصارت بحماية المسلمين وليس في ملكيتهم واشهر تلك الوفود وفد
مسيحيي تغلب الذين جاؤوا معلقين صلبانهم الذهبية على صدورهم حيث احتفى بهم
المسلمون وأقرهم الرسول على مسيحيتهم.
بهذه الحفاوة والمحبة والالفة عاش المسيحيون جنبا الى جنب مع اخوانهم في
الانسانية ونظرائهم في الخلق ولعلّ صلاة الامام علي في احدى الكنائس وردّه
على بعض المعترضين: "طالما عُبدَ الله في هذا المكان"، وصلاة الخليفة
الثاني عمر بن الخطاب في بيت المقدس، وقبلها عهود الرسول الكريم احسن
الشهادات واوثقها، ولعل استشهاد ثلة من المسيحيين بين يدي الامام الحسين في
عاشوراء كربلاء اوضح المصاديق واجلاها.
ترى كيف حرف وعاظ السلاطين هذا المسار وقلبوا هذا النهج ليسير على معوجه
المتطرفون فيمعنوا قتلا وتهجيرا بالمسيحيين المسالمين الاصلاء بعدما تعفنت
نفوسهم المريضة وادمنت الخوض في دماء من اختلف معهم في المذهب او السياسة،
وامتنع عن مشاركتهم في جرائمهم ضد الانسانية، ورفض طروحاتهم الكهوفية، ودعا
الى الاخوة الوطنية الصادقة والى حوار الحضارات والاديان انطلاقا من
التوجيه الالهي: "لكم دينكم ولي دينِي"؟!.
ما حصل في العراق -بعد سقوط السلطة السابقة- من قتل وتشريد وتهجير بحق
العراقيين جميعا وبلا تمييز كان اثره ابلغ واشد على الشعب المسيحي
بآشورييهم وكلدانهم كونهم يمثلون الخاصرة الاضعف في النسيج العراقي لما
جبلوا عليه من مسالمة ووداعة وحيادية وابتعادهم عن الاحتراب والعنف
والشرور، فضلا عن تناقص عددهم بسبب الهجرة المستمرة التي اجبرتهم عليها
سياسات التسلط السابقة وحروبها وتهميشها، وفرارا من استهداف العصابات
الظلامية بعد سقوط تلك السلطة والى يومنا هذا. وساعد على ذلك استسهال ما
يتعرضون اليه من قبل الحكومة والجهات الامنية على اعتبار ان الهجمة
الارهابية تطول العراقيين جميعا، ناسين ومتناسين ان استهداف المسيحيين
جريمة مركبة ومضاعفة: مرة كونهم عراقيين تحت مرمى نيران القاعدة
والمتعاونين معها العشوائية حسب قاعدة "اينما وقعت اصابت" فالمطلوب ايقاع
اكبر عدد من الخسائر في ارواح العراقيين واشاعة الفوضى وتأجيج الاوضاع
الداخلية، واضطراب الامن ومنع الاستقرار، ومرة كونهم "كفاراً" حسب عقلية
عصابات القاعدة الكهوفية التي استهدفتهم مباشرة في الموصل وبغداد وكركوك
واينما وجدوا. وهذا ما لم تحسبه الجهات الامنية بالحسبان وتتخذ له
الاحتياطات اللازمة.
نحن ضد الدعوات المحرضة على خروج المسيحيين وهجرتهم كانت ما كانت نوايا
الاصوات المنطلقة من خارج العراق وداخله، كما نرفض الدعوات الرسمية
المتكررة من بعض الدول بمناسبة وغير مناسبة وطلبها من مسيحيي العراق للهجرة
اليها. كان الاولى بتلك الدول مساعدة العراقيين والمسيحيين بوجه خاص وهم
داخل العراق بطرق مختلفة وعلى سبيل المثال تسهم في انشاء مستشفيات او مدارس
او مجمعات سكنية او ارسال اجهزة طبية او قبول بعثات دراسية حتى وان كانت
تلك الفعاليات مخصصة للمسيحيين العراقيين، اما الالحاح على اخراجهم من
تربتهم واقتلاعهم من جذورهم فهذا أمر لايرضاه ابسط العراقيين. ان المسيحيين
يمثلون ذاكرة العراق الحضارية واصالته، وهم اللون الزاهي في باقة وورده
العطرة، والخيط الحريري في نسيجه الزاهي، والفكر الوقاد في ثقافته، ولذا
توجب على العراقيين جميعا ان يضعوهم في حدقات العيون وحنايا الضلوع،
ويصيرون لهم دروعا ومتاريس بوجه اعداء الحرية والنور. ولتكن فاجعة كنيسة
سيدة النجاة درسا بليغا وعظة وعبرة.
|