المطلـــق و النســــــبي

                                                                                            

                                                                                   نبيل شانـــــــو

       

                   في حياتنا المعاشة قد لا نصل إلى جميع الحقائق والوقائع بتفصيلاتها المرجوّة ، لكننا ندركها إلى حدٍ ما وذلك عبر ردود أفعال وممارسات وتصريحات صاحب الشأن أو من يملك القرار ، بتعبير آخر لو أن شخصاً ما " ادعى " الشجاعة خلافاً لما يضمره من واقع أو فعل معاكس ، لا يلبث أن يُكتشف ويفضح مع الزمن بفعل يظهر ومن ثم يؤكد واقع الحال الحقيقي للشخص المعني ؛ فالشجاعة ليست شجاعة (في نظر الواعين) إن لم تكمل وتغلف بالفضائل الأخرى كالصدق والكرم واحترام الآخرين وغيرها من الصفات الإنسانية الأخلاقية التي تجعل من ذات الشخص قدوة ورمزاً في نظر المجتمع ، وأي فصل وإخلال بين هذه الصفات المرادفة والمكملة وبين الشجاعة تجعل المعني ضمن دائرة الشك ، وبالتالي تفقده ثقة الآخرين الضرورية لنجاحه أو فشله في إطار ذلك المجتمع ، وكذلك الشجاعة التي لا ترادفها الحكمة في التصرف تجعلها في النتيجة تهوراً وانتحاراً .

 هناك نوعين من الشخصيات في عالمنا المعاش : نوع يعتقد ويؤمن بفكر أو بهدف معيّن ويظهره للعلن دون خشية أو خوف من ردود أفعال الآخرين ؛ ونوع آخر يؤمن بفكر وهدف معيّن أيضاً لكنه لا يظهره للعلن أو يطلق غيره مخافة عدم وصوله إلى أهدافه المرجوة ، وبالتالي إفراغ فحوى وجوده كإنسان صاحب موقف وخصوصية . الشجاعة والكرم والصدق والنزاهة وغيرها من ركائز الفضيلة هي من خصال النوع الأول ، أما النوع الثاني فيعتبر الفضائل السابقة حالة نسبية وحسب الموقف ، فهو يهتم بالشكليات في تعامله مع الآخرين بمعنى أنه ابتداءاً يحاول فهم المقابل للسيطرة عليه ومن ثم يحاول عكس فعل لا يؤمن به بالضرورة لخلق وزن له عند الآخر ، أي أنه يظهر عكس ما يضمر بطريقة لبقة في محاولة إيحائية للتماشي مع مقياس الشخصية الإيجابية المقبولة في المجتمع بصورة عامة .

 يتبادر إلى ذهننا في كثير من الأحيان تساؤل مفاده : متى يمكننا تمييز وفرز ما بين النوعين المشار إليهما سابقاً ؟ أو بالأحرى متى يمكننا اكتشاف حقيقة أي من النوعين ؟ فمن المؤكد أننا جميعاً نؤثر ونتأثر في البيئة المحيطة بنا ( وهذا أمر جوهري لإظهار حقيقة الإنسان وانفعالاته ) ، فحين يكون الفرد قوياً إن من ناحية الفكر أو الجسد أو كليهما فان عامل الخوف أو الخوف من الآخرين يختفي أو يضعف سواء بالفعل أو برد الفعل، وهنا فأنه يؤثر على غيره سلباً أو إيجابا بما يعكس ما يختزنه من إرادة ، إقناعاً قدر تعلق الأمر بالنوع الأول ، بمعنى أن المنافس يكون مقتنعاً لعدم إمكانية الفوز في أية منافسة مع من هو على شاكلة النوع الأول فكرياً وجسدياً . أما النوع الثاني فيعتمد الإجبار بفعل معاكس لحالة الإقناع ، كون الإجبار هنا يأتي عن طريق الالتفاف على الحقائق والإمكانات وبالتالي إجبار الآخر على تقبل موقف دون رغبة منه .

 لقد احتاج الإنسان ومع تطوره الفكري أن يفرق بين حالتي الخير والشر ووضع حاجزاً أخلاقياً يفصل بينهما ، حيث يمجد أحدهما ويلتزمه ويرذل الآخر وينكره ، ولا يمكن الالتزام بالحالتين في نفس الوقت وبنسب متساوية أو أحدهما بشكل مطلق ، بمعنى أن نفس الشخص العادي يحمل عوامل الخير والشر في دواخله لكن بنسب مختلفة ، فمن كان الشر فيه طاغياً على فكره وتصرفاته ، إذن بالضرورة أن يكون الخير لديه هامشياً ، والعكس صحيح أيضاً . وما دمنا نتطرق إلى أمور متعلقة بالمجتمع الإنساني فلو أردنا أن نتابع صحة أي مجتمع بشري علينا مراقبة الحلقة الأضعف فيه ، ونقصد بذلك نتاجه من صغار العمر ، فمن المعروف أن هؤلاء يمثلون خلاصة فسيولوجية وسيكولوجية الكبار ، بالتالي فهم الصفحة البيضاء التي تعكس ما يُكتب عليها وبالتالي تحضيرها للمستقبل ، وعليهم وعلى عاتقهم ستصاغ سياسات مجتمعاتهم الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية المستقبلية ، مما سيؤكد بالنتيجة تقدمها أو تراجعها . ففي بعض المجتمعات يعاني الأطفال من عدم استقرار نفسي ( يكتسبه عن طريق بيئته ) يفرغ على شكل عنف أو تصرفات سلبية أخرى تجاه أقرانه أو تجاه بعض الحيوانات الأليفة ، وكلما زادت حدة هذه التصرفات وتعددت في مجتمع ما ، لنا أن نتوقع على وجه اليقين إلى أين يتجه ذلك المجتمع ؛ بعكسه في مجتمعات أخرى نلاحظ أن أطفالها قد وضعوا ضمن بوتقة المفاهيم الحديثة " الديمقراطية وحقوق الإنسان ... وغيرها " نلاحظ صحة هذه المجتمعات بشكل عام ، فالطفل بشكل عام يختزن في عقله الباطل في هذه المرحلة العمرية بالذات ( قبل مرحلة التذكر ) ما يلقى عليه من مفاهيم وتصرفات ، بحيث أنه عند البلوغ يخشى بعض الأمور ويحب أخرى لأسباب لا يعلم مصدرها ، التي هي نتاج تلك السنين الأولى من عمره ، عليه فصحة أي من المجتمعات الإنسانية تكمن في التركيز على القاعدة العمرية الصغيرة والاهتمام بها اهتماما خاصاً .

                     

 

 

Home - About - Archive - Bahra  - Photos - Martyrs - Contact - Links