المسيرة.. الإستفتاء
نبيل شانو
كما في الأعوام الماضية خرجت مجاميع كبيرة من أبناء شعبنا (الكلداني
السرياني الآشوري) إحتفاءاً بأعياد رأس السنة البابلية الآشورية ( أكيتو )،
في مسيرة جماهيرية راجلة لترفرف الأعلام وتعلوا اللافتات وتصدح حناجر
الحاضرين نساءاً ورجالاً، شباباً وشابات.. بل وحتى الأطفال الذين هم في
بداية الطريق لمعرفة هويتهم وإنتمائهم. ألوف مؤلفة شاركوا ومن مختلف مناطق
تواجد شعبنا ــ من خارج الوطن كما الداخل ــ قاطعين شوارع مدينة دهوك
الجميلة.
نقول أنهم شاركوا في
تلك المسيرة لا تقودهم مصلحة خاصة أو من أجل كسب شخصي أو "تملقاً" لجهة
ما.. إنما إحياءاً لمفاهيم القوة والتحدي التي كنا قد نسيناها فيما مضى من
زمن لأسباب عديدة، وكذلك ايقاداً للجذوة التي كادت أن تخبوا، جذوة الوحدة
القومية الهادفة إلى تعريف الناس بتاريخهم وإرتباطهم بأرضهم وعراقة أصلهم..
وقد كان للطبيعة "مشاركتها" هذا العام أيضاً، ففي حين جرت مسيرة العام
المنصرم وكذلك الفعاليات التي تلتها تحت زخات من المطر المتواصل.. فأن
السماء الصافية والشمس الساطعة هذا العام لم تمنع الغيوم من التجمع لتزخ
على الحاضرين "بركتها" وتأييدها بقطرات من المطر أنعشت المناخ الصيفي الذي
حلّ قبل أوانه هذا العام.
لقد اثبت الحدث بأن هذا
الشعب هو شعب حي لازال القلب فيه ينبض وبقوة.. فعلى الرغم من تردي الوضع
الأمني والسياسي إلى حد بعيد في الوطن الكبير العراق، إلا إن هذه الجماهير
قد آثرت على نفسها القدوم ومن مناطق شتى لإفهام القاصي والداني بأن أحفاد
الحضارات العظيمة لا زالوا هنا، فالإنسان الحر دائم الإصرار على إسماع صوته
دفاعاً عن حقوقه.. وكلما إزداد الظلم بحقه إزداد صوته جهورية ووضوحاً وقوة،
وذلك ما كان حين شكلت مسيرة هذا العام مناسبة لإستنكار الجرائم بحق ابناء
شعبنا الأبرياء، ونخصّ بذلك رجال الدين الذين تم إستهدافهم في الآونة
الأخيرة ومنهم الشهيد المطران مار بولص فرج رحو.. ذلك الرجل الذي كان ديدنه
المناداة بالوطنية والسلام والمحبة بين جميع مكونات الشعب العراقي الكبير.
وبخصوص ردود الأفعال
تجاه مسيرة هذا العام، فقد شكلت مناسبة للفرز بين من يؤمن بهذه الأمة
ووحدتها ومستقبلها المشرق الصادق مع نفسه ومع الآخرين، وبين من يدعي شعار
الوحدة زوراً وبهتاناً.. تلك الشعارات "النظرية" للبعض من بني جلدتنا
الذين ملأوا الدنيا زعيقاً بدعواهم للوحدة القومية والسعي من أجل العمل
القومي المشترك، ليتبين وعبر ردود أفعالهم وتصرفاتهم تجاه تلك "المسيرة"
ومحاولتهم ثني الناس عن المشاركة بحجج شتى وترهيب بسطاء الناس بقطع أرزاقهم
إن هم شاركوا (وكأنما هدف المسيرة كان إضعاف الروح القومية وإعطاء صك مصير
الشعب للآخرين وتأييد للأعمال التعسفية التي طالت أشقائنا في بعض المناطق،
وليس العكس!!).
وعلى الرغم من كل تلك
الحجج وعمليات الترهيب خرج عشرات الآلاف بعفوية في تظاهرة قلّ نظيرها حتى
على مستوى العراق، لتعطيهم درساً بليغاً مفاده "ليس بالمال وحده يحيا
الإنسان" بل بقوة الموقف السلمي وبلاغة الحق وعدم الرضوخ للإبتزاز.. فمن
يقولب أعماله وآراءه كافة إستناداً إلى الكسب المادي والخضوع للآخر لا يمكن
أن يكون له رأي في مستقبل أشقائه وشعبه.. ومثل هؤلاء يجب أن نرثي لحالهم
كوننا نعلم علم اليقين أن ما يصدر عنهم ليس بالضرورة أن يكون صادراً عن
قناعة، بل حتى لن يكون من بنات أفكارهم أصلاً، فمن يدفعهم لمثل تلك المواقف
يرعبه ترسيخ حالة الوحدة، حيث لن يكون بإمكانه التلاعب بمقدرات شعبنا
ومصالحه العليا وتحت عناوين الحماية أو التبعية (بعكس حقائق التاريخ).
مما يؤسف له أن البعض
من أبناء شعبنا قد "إندمج" في لعبة المصالح السياسية لبعض الأطراف، وأصبحوا
من حيث يدرون أو لا يدرون بوق مدفوع الأجر لدس السم في عسل العلاقات بين
أفراد ذات الشعب، وبالنتيجة.. من الواضح أن المشكلة لا تكمن حول آليات
تنفيذ الوحدة بين مكونات الشعب وإظهار ذلك وبقوة للعلن، فذلك أمر مفهوم حيث
يمكن معالجته بالجلوس والتفاهم للوصول إلى حلّ يرضي جميع الأطراف.. لكن
المشكلة هي في من يختلف لمجرد الخلاف حفاظاً على مصالح آنية مكتسبة، وهذا
الأمر يمكن فهمه أيضاً من تجارب الشعوب عبر التاريخ عندما تشذ مجموعة قليلة
تعمل لمصلحتها الخاصة دون النظر إلى المصلحة العامة والأهداف الستراتيجية
لذلك الشعب.
إن مستقبل الشعوب
يحددها وبشكل أساس الطبيعة الشخصية لأفرادها، فأما أن يكون أولئك الأفراد
أحرار وسادة أنفسهم، وأما أن يكونوا تابعين خانعين (عبيداً) لأيديولوجيات
وأهداف الآخرين ممن يفوقونهم عدداً وإمكانات مادية.. وفيما يخصّ شعبنا
فتجارب الماضي القريب حدّت وإلى حد ما من إيجابية الفرد لأسباب عدة منها
المذابح والتهجير والإلغاء والإقصاء، بحيث أصبحت تلك الشخصية سلبية إتكالية
ــ مع بعض الإستثناءات ــ ترضى بالفتات المقدم لها من هنا وهناك وهي قانعة
خانعة.. لتأتي المسيرة وتوقظ الأمل فينا من جديد وهي "أي المسيرة" أوسع
وأشمل من أن تؤطر بأطر المصالح المشروعة وغيرها لجهة معينة، فالهدف منها
ليس الكسب الحزبي (كما يحاول البعض أن يُجمِلْ الموضوع ويصدق بالتالي
ادعائه ذاك)، فهي فرصة مناسبة لإعادة الثقة الى نفوس من حاول ان يقنع نفسه
وآخرين من حوله بأننا شعب لا حول له ولا قوة، وعلينا ان نوفر لأنفسنا
"حماية" تقينا تقلبات الوضع الداخلي!!.. فالمسيرة بحد ذاتها تشكل نقلة
نوعية للمشاركين فيها - خصوصا للشباب منهم - لتنشئتهم على عدم التسليم
للأمر الواقع المضاد لمصالحهم، فقد ولى زمن شمولية العقاب وقسوته حيث أصبح
الانسان قادراً على الجهر بحقوقه المشروعة دون خوف من تهميش او ملاحقة.
في ختام مقالنا هذا لا
بد من التوجه بالتحية والعرفان للجهة القائمة على هذا الكرنفال الرائع
(الحركة الديمقراطية الاشورية) على طول صبرها وأناتها في التعامل مع مختلف
الإتجاهات والافكار خدمة للصالح العام لشعبنا واهدافه، حيث يكفيها فخرا
بانها الجهة الوحيدة بين مؤسسات ابناء شعبنا التي استطاعت وتستطيع استقطاب
وقيادة اعداد غفير من ابناء شعبنا وتنظيمهم في مختلف المناسبات (سياسية،
ثقافية، اجتماعية) على الرغم من عدم تمكنها من المنافسة الاقتصادية مع
(الاخرين).. فالواعون منا بامكانهم التمييز بين من يرغب بالقائهم في مجاهل
المستقبل وبين من يريد قيادتهم الى شاطىء الامان.. اما عن المتشدقين
بالارقام والحجوم فنقول: ان مسيرة (1 نيسان) دليل دامغ لا يقبل المواربة
على انها لم تكن مسيرة احتفالية هادفة فقط، انما كانت وبحق مسيرة الاستفتاء
على الارقام والحجوم، والتمييز بين الغث والسمين، الواقعي والخيالي، الحر
والعبد.
|