سركون بولص : الأشوري النائم في سفينة نوح

  

                                                                                 كتابات - عبد الكريم كاظم

أما زال سركون نائماً في سفينة نوح .. في ذلك الطوفان، أما زال (حامل الفانوس في ليل الذئاب) يضع الكلمات فوق ذلك البياض، وهل ما زالت (الحياة قرب الاكروبول) ممكنة لنستطيع أن نكذب الواقع لتبقى على قيد الشعر، الموت حيلة، ولكن ثمة ملايين أخرى من الحيل، الموت لا علاقة له بالآخرين، إنه موت الشاعر وحده .. وهو لا يريد أن يطمس هذه الحقيقة عبر محاولاتنا المرهقة لالتزام جانب الرثاء في السرد اللفظي، ولذا أيضاً فإن الجزء الوحيد الخاص بالشاعر في هذه الكلمات يصل هنا أو هناك، فلحظة الموت مثقلة بالحزن وبالمحاولة الشعرية الأخيرة التي سيكتبها سركون بجرأة متناهية تليق بقامته وإنسانيته وبموهبته كشاعر . ليس ثمة طريقاً آخراً يا سركون، فأنت تعيش في عالم عجيب تمت صناعته في أقسى الظروف ولقد فصلك ذلك عن الناس جميعاً مثلما أبعدك عن البلاد وما عاد بوسعك أبداً أن تمرّ خلاله لتصل إلى مدينة(أين) حيث الآخرين وحيث الومضة الأولى، فدع ذلك كله وأغمض عينيك فأضواء الشوارع والحرائق والمدن وآلاف الوداعات المشحونة بالتوتر والترقب مربكة إلى أبعد الحدود فأين يريدنا الله أن نذهب؟ من حقنا أن نعرف . ماذا يعني الجمال أو القبح بالنسبة للموت؟ الإجابة المثيرة للدهشة أن الموت ليس عنصراً مستقلاً عنا، إنه مجرد شخص ثقيل الظل ولزج يستمد طغيانه في الدرجة الأولى من القبح الذي يغلف طموحاته المحفوظة بداخله وذلك بالضبط هو ما نعنيه عندما نصفه باللزج، فليس ثمة أحداً بيننا لا يموت، لكن ما نفعله في الواقع هو إصدار الموجات الشعرية طبقاً لصور نادرة تمنح الحياة شكلها الشعري اللانهائي . أيها القارئ: ضع الشاعر بجانب القصيدة، وأقرأ ذلك بأكثر الطرق اختصاراً وتذكر أن الشاعر كلمة واحدة، وليست صفة وحسب، تصارع الحياة في تعقيدها ثم تجنب منطقة المعنى، وهذا في الشعر كلام يصعب تفسيره، فتكرار الموت يحدث تنبيهاً مفاجئاً أو فرقعات ذهنية مليئة بالصور والألوان النادرة والأخيلة ومن هنا تنشأ ضوضاء الكلمة وتبدأ القصيدة تأخذ طريقها . دع الشاعر أيها الموت ووجه اهتمامك إلى الطرف الآخر ذلك الذي يمارس القبح فهناك تكمن فعلاً كل مراكز القبح ولتكن جريئاً في تصور الجمال ذاته لأنه يرتبط بكلمات الشاعر ولأنه يعطي للجمال لونه الحقيقي، فالشاعر الذي تراه في القصيدة لا يكون إلا جميلاً على عكس الآخر الذي تراه في كل الأمكنة . ما زلت أحمل معي مجموعتك الشعرية (إذا كنت نائماً في سفينة نوح) لكنك مضيت حاملاً معك فانوسك الخاص وتاركاً لنا أن نتتبع (الأول والتالي) وهذه الحياة المعلقة في الفضاء، يبدو أن الموت يتوعد الشاعر العراقي، فما أصعب أن يكون الشاعر عراقياً، إنها لعبة الموت وهي أكثر لعبة مدعاة لليأس وإذا كانت ثمة ملامح واضحة لهذه الحقيقة فإننا نستطيع أن نقول: إن الله قد أطلق سراح الموت على الشعراء العراقيين وكلمة (سراح) نفسها إشارة كاملة إلى حقيقة لعبة الموت، كما أن هذا القول لا يبدو مجرد رمز لغوي لأن اللعبة كلها مجرد محاولة متعمدة وعبثية لتغطية فضيلة الشعر أو فضائل الشاعر الذي يصدع رؤوس العالم في المقاهي والشوارع والمدن والحانات بضرورة القصيدة، فالصفة الوحيدة الممكنة للشاعر هي المنقذ، وإذا استمرت القيامة بهذه الطريقة فإن الشاعر سينال صفة المنقذ عن جدارة، حتى وإن كان ميتاً، وأنا أعني بذلك أن الشاعر لا بد أن يصبح مبشراً أو نبياً للجمال لكي يمكن وصفه، أيضاً، بالجميل . لقد اكتمل المشهد الأخير ولهذا السبب لم أتمكن بعد من الكتابة عن سركون بولص في الصياغة التي تتطلبها المراثي، لا مفر إذن، فإننا نموت ونستجدي كلمات الرثاء كعزاءً ما عن غربة الشاعر وغربتنا، فهل كان سركون قادراً على دفع مراكب الحنين إلى مدينة الحبانية، حيث ولد سنة 1944، من على هذه البقعة اليابسة اللعينة المجردة التي تسمى بالمنفى .

 

• إشارة:

• وردت في المقال أسماء مجموعة من إصدارته الشعرية:

إذا كنت نائماً في سفينة نوح /الأول والتالي/الحياة قرب الاكروبول/حامل الفانوس في ليل الذئاب/الوصول إلى مدينة أين .

 

 

Home - About - Archive - Bahra  - Photos - Martyrs - Contact - Links