شتـّان بين وضعين
نبيل شانو
أفرزت
انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض ، في
ولاية أمدها أربع سنين قادمة ، أهمية الخبر لا تكمن في نتائج الانتخابات
وفوز هذا المرشح أو ذاك ، إنما الأهمية تكمن في المرشح الفائز وخصوصيته
العرقية والثقافية ؛ فالرئيس الجديد "باراك حسين أوباما" هو أول رئيس أسود
يشغل البيت الأبيض منذ استقلال الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو ابن مهاجر
كيني قدم إلى أمريكا في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي ، متأملاً الحصول
كغيره من المهاجرين على فرصة جديدة في الحياة ، وهناك يتعرف على فتاة
أمريكية من العرق الأبيض ويتزوج منها ، لينتج عن ذلك الزواج طفل سيكون له
في المستقبل شأن كبير في الحياة السياسية الأمريكية والعالمية ؛ وعلى الرغم
من الصعوبات العائلية التي مرّ بها في صغره ، إلا إن ذلك الطفل يجتهد في
تعليمه الأولي ، و يكمل أخيراً دراسته في إحدى الجامعات الأمريكية المعروفة
؛ ينضم بعدها إلى العمل السياسي والإنساني وهو في ريعان الشباب وينجح في
هذا المجال أيضاً مدعوماً بشخصية كارزمية ومنطق جذاب وخبرة قانونية ( كونه
محامياً ) كل ذلك أهله كسب عقول وقلوب وبالتالي أصوات الناخبين في
الانتخابات الأخيرة وبفارق كبير عن منافسه .
ما يهمنا هنا كمراقبين هو ليس شخصية الرئيس الجديد أو رؤيته
لسياسة بلده الداخلية والخارجية ، وإنما البيئة المجتمعية التي سمحت لهذا
الشخص الذي هو من أصول أفريقية من أن يتصدر الموقع الأول وفي الدولة العظمى
الأولى في عالم اليوم ، فعندما يصل مجتمع ما إلى قمة العطاء الثقافي
والأخلاقي فأنه يتجاوز الأطر الشكلية الضيقة للفرد من شكل خارجي أو انتماء
عرقي ، بل ينظر إلى المضامين الفاعلة الداخلية له ومقدار الخدمة التي يمكن
أن يقدمها للآخرين ، فمن المعروف عن الأمريكيين من الأصول الأفريقية أن
نسبتهم لا تتجاوز 13% من عدد السكان ، وعمرهم في هذا البلد ليس أكثر من
ثلاثمائة وخمسين عاماً ، وقد جلبوا إليها أساساً للعمل كعبيد في المزارع
والحقول ، بمعنى آخر أنهم ليسوا أو لا يعتبروا من سكان البلد الأصليين ،
وقد استمرت السياسة العنصرية تمارس ضدهم حتى عقد الستينيات من القرن الماضي
، حيث الغيّت كافة القوانين العنصرية حينها ، لتكسر الحواجز ولتتلاشى
الطبقات في ضوء المساواة بين أفراد المجتمع أمام سلطة القانون ، ولتجني تلك
" الأقليّة " ثمار العدالة والتسامح أخيراً بانتخاب أحد أفرادها رئيساً
للسنوات الأربع القادمة . إن الفضل في ذلك أولاً وأخيراً يعود إلى المجتمع
الأمريكي الذي شرع من القوانين ما يصب في خدمة كافة المواطنين دون استثناء
، وما يجعل من الفرد قوياً ومتسامحاً مع الآخرين في ذات الوقت ، فالمهم في
الموضوع هو عدم النظر إلى الآخر من منظار عرقه أو دينه أو مذهبه أو لونه ،
إنما المهم هو كفاءته ومقدار الخدمة التي سيقدمها لذلك المجتمع ، وهذا ما
دفع الكثير من الناخبين ومنهم البيض تحديداً التصويت للمرشح الأسود .
في المقابل نجد أن الوضع مختلف في مجتمعاتنا اختلافا جذرياً ،
ولو أخذنا العراق كمثال واقعي نقول أنه وبعد التغيير الذي كان من المفترض
أن ينقلنا من حالة الشمولية وإلغاء الآخر ، إلى حالة أخرى من التفاهم
والعمل المشترك المستند إلى العدالة والتسامح ( ولو شكلياً !) ، ليتبين أن
حالة الإقصاء المعششة في عقول ونفوس الكثيرين لا زالت مستفحلة ومرسخة
بطريقة مرضيّة ، وهذا الأمر ليس صعب الفهم والتقييم على أصحاب الخبرة
والتخصص في المجالات التي تدخل في صلب تطور المجتمعات الإنسانية ، فواهم من
كان يراهن على التغيير المباشر إن من ناحية المنظومة القيميّة العامة أو من
ناحية الالتزام بالأنانية الفردية والجَمعية المستندة إلى المصالح الخاصة ،
حيث أن المسألة لا تتعلق بتغيير ملبس أصبح ضيقاً عليناً أو قطعة أثاث لم
يعد مرغوباً بها ، بل بمفاهيم وقيّم جديدة كنا نستنكرها سابقاً وحتى الأمس
القريب على اعتبارها "هدامة" ولا يمكن تطبيقها في مجتمعاتنا ، مفاهيم وقيّم
من مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وقبول الآخر ؛ وخير مثال على كلامنا هذا
ما جرى ويجري مع "الأقليات" الأصيلة في وطننا العراق ، وأخصّ بالذكر شعبنا
المسالم الكلداني السرياني الآشوري ، فمن يستهدف شعبنا مؤخراً بالقتل
والترهيب والتهجير لا يقوم بفعلته انتقاما لجريمة قام بها أحد هؤلاء
المسالمين لعدم وجودها أصلاً ، إنما يدفعه لذلك ثقافة الإقصاء والتهميش
ومصالح يجب تحقيقها والحفاظ عليها ، حتى وإن تطلب ذلك تهجير شعب كامل من
منطقة لأخرى ، وللأسف فأن تلك الممارسات لم تقتصر على "الخارجين" عن
القانون فقط ، بل أن التهميش والإقصاء قد مورس من قبل الشركاء في العملية
السياسية الحالية أيضاً وبطرق أكثر مكراً وخبثاً ، وخير دليل على ذلك هو
التعامل مع المادة ( 50 ) من قانون انتخابات مجالس المحافظات ومسألة الكوتا
الخاصة بتمثيلهم في الحكومات المحلية ، حيث الكل قبلها كان قد ذرف الكثير
دموع التماسيح من أجل الأقليات وحقوقها الواجب تمتعهم بها كونهم مواطنين من
الدرجة ( .... ) !! ولم يحرك هذا الكل ساكناً من أجل تغيير ذلك الواقع ،
بحيث أمست هذه الأقليات ومنها شعبنا الكلداني السرياني الآشوري مجموعة من
البشر خائفة ليس من خطر داهم قادم من الخارج يهدد وجودها ، بل من أخوة
وأشقاء شاء القدر أن يعيشوا معه على هذه الأرض !! .
إن المضحك المبكي في هذا الموضوع
هو أن أمريكا التي لا يتجاوز إرثها الحضاري عدة مئات قليلة من السنين قد
أعطت مثالاً رائعاً لنفسها قبل الآخرين ، مثال قد نحتاج (كعراقيين) إلى
فترة طويلة من الزمن لكي نستوعب قيمته الأخلاقية والحضارية ، فهي قد قضت
على بقايا قلاع العنصرية والإقصاء بنتائج عملية الانتخابات الماضية ؛ بينما
لدينا نلاحظ بداية النهاية لتلاشي الأقليات الدينية والعرقية إن بالقتل
والتهديد أو بالهجرة الكيفية أو بالتهجير ألقسري من وطن طالما أعتـُبر
تاريخياً منارة للحضارة ومركزاً لبعث الإشعاع العلمي والقانوني ، فهل من
الإنصاف أن يولد أحفاد أولئك ويعيشوا على أرضهم كضيوف ، ومن ثم يموتوا في
بلاد أخرى كغرباء ؟ . ختام القول إننا لا نرمي لأن يكون رئيس العراق من
الأقليات كما حصل في أمريكا ، فهذا الأمر لن يتحقق في المستقبل المنظور على
الأقل ، إنما نريد أن يكون لدينا رئيس كفء لنظام عادل ، يأخذ فيه كل ذي حقّ
حقه
|