لماذا
تـُقبـل المنتجات ولا تـُقبـل الأفـكار
نبيل شانو
نسمع بين حين وآخر
عبر وسائل الإعلام عن تمكن العلماء في هذا المكان أو ذاك من اكتشاف جهاز
جديد أو عقار جديد أو آلة جديدة أو أي شيء يساهم في تطوير حياة الإنسان
وحمايتها .. ملخص القول أن هناك في المجتمع الإنساني الكبير من يفكر في
تطوير العلم والتكنولوجيا وتسخير أدواتها في خدمة البشرية جمعاء ، دون
التفكير في حكر هذا الاكتشاف أو الاختراع في مجموعة محددة من البشر ، بل
يشارك الآخرين في الاستفادة منه . ويخطئ من يظن إن هذا التقدم العلمي
والتكنولوجي وبالتالي الحضاري بصورة عامة قد حلّ على أصحابها بين عشية
وضحاها ، أو أنها وليدة المفاجأة ؛ إنما هي نتاج مجهود الإنسانية جمعاء ،
فكل الحضارات عبر التاريخ ( المدون وغير المدون ) ساهمت بطريقة وبأخرى
وبنسب متفاوتة إلى ما وصلت إليه البشرية الآن من تقدم في كافة مجالات
المعرفة . لكن وخلال العصر الحديث ومنذ الثورة الصناعية بالتحديد ، نلاحظ
تمركز وانحسار عملية التقدم ( التقني والفكري ) في مجتمعات بعينها منها
أوروبا وأمريكا وبعض أجزاء آسيا ، لتصبح هذه المجتمعات بالتالي القوة
المهيمنة وصاحبة اليد الطولى في مصير البقية الباقية من البشرية ، أو لنقل
الدول النامية والمتخلفة تقنياً ، وهي بالمحصلة تتحكم فيها اقتصادياً
وسياسياً .. وقد يتساءل أحدهم لماذا أو ما الذي أدى إلى تمركز المعرفة في
مجتمع معين دون غيره ؟ .. ويكمن الجواب في أن هذه المجتمعات قد استفادت من
الفرص المتاحة عن طريق تهيئة الوسائل والأدوات المادية والتقنية وغيرها ،
مستلهمة ومستندة في ذلك بالأساس إلى الفكر الحر المتفتح وعدم وضع " خطوط
حمراء " إلى حد ما على الإبداع الإنساني كيفما كان ومن أي جهة صدر ، فالمهم
في الموضوع هو أن يؤخذ السمين منه ويطرح الغث والذي لا يتلاءم مع واقعها
بعيداً ؛ إذن فالتقدم المعرفي لهذه المجتمعات هو نتاج الفكر الإنساني بصورة
عامة . ومن الجدير بالذكر إن هذا التقدم لم يأت نتيجة لترف أو حالة سلام
دائم ، بل واجهت لأجله تلك المجتمعات من الويلات والحروب والكوارث الشيء
الكثير ، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه حالياً .
أما المجتمعات في دول العالم النامية ( الاستهلاكية ) ، فيبدوا
أنها لا تريد تحريك ساكن من أجل اللحاق بركب من سبقها من المجتمعات
المتقدمة ( الإنتاجية ) ، فهي تفرح وتهلل للحصول على المنتجات المتقدمة
تقنياً كالحصول على سيارات ( آخر موديل ) ، أو لقاح ضد مرض فتاك ، أو طائرة
حربية ذات مزايا خاصة ، أو مفاعل لإنتاج الطاقة يعمل على الوقود النووي ..
وهكذا ؛ وتعتبر هذه المجتمعات بأنها وبعد حصولها على تلك المنتجات قد تقدمت
خطوة إلى الأمام في السباق الإنساني للحصول على المعرفة ، ناسية أو متناسية
بأنها مجتمعات استهلاكية فحسب ، طالما سيأتي الوقت الذي ستستورد فيه " قطع
غيار " لإدامة التكنولوجيا "المستوردة " !! . والمفارقة هنا أنه حين يصدر
رأي من فرد أو مجموعة أفراد داخل أحد تلك المجتمعات تنادي بضرورة الاعتماد
على الفكر الإنساني المتقدم لتطوير مستوى مجتمعاتهم المتخلفة ، واللحاق
بركب من سبقهم حضارياً ، وذلك عن طريق السماح بالحرية الفكرية أولاً وما
يتفرع عنها من ثوابت ضرورية لعملية التقدم تلك ، ومنها حرية التعبير
والتسامح وقبول الآخر ، كونها تمثل ركائز مهمة ــ كما قلنا سابقاً ــ
وبوابة للنهوض ؛ فيأتي رد الفعل بطريقة بعيدة عن الواقعية تسفه مثل هذه
المطالب وتسخفها ، بل وتصل الأمور إلى أكثر من ذلك بتهديد صاحبها بالويل
والثبور وعظائم الأمور !! ، على اعتبار إن ذلك " يطمس "الهوية الثقافية
لذلك المجتمع ، وأنها تعبر عن " وجهة نظر مدسوسة وأن صاحبها عميل " ، وكيف
أن هذه الأفكار " الغريبة " ستؤدي إلى إضعاف أو إلغاء الموروث "الثقافي "
لذلك المجتمع ، وإحلال " الأفكار الهدامة " بديلاً عنه ؛ وهنا تكمن المأساة
.. فكيف نوازن بين محبتهم للمنتجات الجاهزة وكرههم وابتعادهم عن المفاهيم
التي أوصلت تلك المجتمعات لهذه المنتجات !! .
إن أي منتج تكنولوجي أو أي نشاط لفائدة البشرية يعتمد
كخطوات تنفيذية على التخطيط النظري إبتداءاً ، ومن ثم تأتي مراحل الإنتاج
التي تحتاج إلى عقليات جبارة لصياغتها وإخراجها في قالب جميل وجديد ، ليس
هذا وحسب إذ تحتاج الإنسانية إلى التجدد والتحديث المستمرين ، كون العقل
البشري لا يقف عند ابتكار أو صناعة بعينها ، فاستمرار الحياة بحاجة إلى
التطوير والتجديد ، وليست بحاجة إلى ازدواجية المعايير أو التمسك ببعض
الخرافات التي عفا عليها الزمن ..
|