في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الشاعر الكبير سركون
بولس
شليمون داود اوراهم
رحل في الثاني والعشرين من تشرين الأول من العام الماضي الشاعر العراقي
المعروف سركون بولس الذي توفي في العاصمة الألمانية برلين بعد صراع مرّ مع
المرض.
وإكراما لذكرى هذا الأديب الكبير (الشاعر والمترجم... والرسام)، والأثر
الطيب الذي تركه في الساحة الأدبية العراقية والعربية والعالمية.. كان لا
بد من وقفة متواضعة في الذكرى السنوية الأولى لرحيله:
* ولد سركون بولس عام 1944 بالقرب من بحيرة الحبانية في العراق، أقام
منذ عام 1969 في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة وأمضى السنوات الأخيرة
متنقلاً بين أوروبا وأميركا، وخصوصاً في المانيا حيث حصل على عدة منح
للتفرغ الأدبي، وصدرت له ثلاثة كتب بالألمانية، "غرفة مهجورة، قصص، 1996"،
"شهود على الضفاف قصائد مختارة، 1997" و"أساطير وتراب، سيرة". كما أصدر
ترجمته لكتاب ايتيل عدنان "هناك في ضياء وظلمة النفس والآخر"، و"النبي"
لجبران، و"رقائم لروح الكون.. ترجمات مختارة".
وقبل أن يهاجر انتمى سركون بولس في الستينات إلى جماعة كركوك الأدبية،
حيث برزت وقتها أسماء عدة من العراقيين الناطقين بالسريانية "بحسب التوصيف
حينئذ"!، مثل الشاعر وراعي الأدباء "الأب يوسف سعيد" والشاعر العبثي الراحل
"جان دمو" إلى جانب سركون بولس.. الشاعر العراقي الأصيل والمتميز، والمنحدر
من مدينة كركوك، والذي حاول مع أقرانه حين وصلوا إلى بغداد في الستينات
تغيير خريطة الشعر العراقي.
ومن بغداد حمل سركون بولس مشروعه الشعري، حيث توقف في بيروت وتعرف على
تجربة مجلة "شعر" اللبنانية وساهم في تحريرها وترجم العديد من النصوص
الشعرية من اللغة الإنكليزية، خصوصاً لشعراء القارة الأميركية. ثم منذ فترة
تزيد على عشرين عاما هاجر سركون بولص ليقيم في مدينة سان فرانسيسكو، وخلال
الأعوام التي قضاها هناك، بقي سركون مخلصا للشعر ولترجمة الشعر، وأثناء تلك
الإقامة الطويلة التي قرر أن ينهيها بالذهاب إلى أوروبا، خصوصا إلى لندن
وباريس وبرلين حيث حصل على عدة منح للتفرغ الأدبي، لم يتخلص من لهجته
البغدادية وبقي نفس القروي ذلك القادم من كركوك.
في مدينة سان فرانسيسكو تعرف سركون على أشهر الأدباء الأميركيين الذين
يمثلون جيل البيتنكس أمثال ألن غينسبرغ، كرواك، غريغوري كورسو، بوب كوفمن،
لورنس فيرلينغيتي، غاري سنايدر وغيرهم. ويعد الشاعر سركون بولص من
المترجمين العراقيين المتمكنين من فن الترجمة، إذ رفد المكتبة العربية
بالعديد من ترجماته الأمينة لإزرا باوند، أودن، ميرون، شيللي، شكسبير،
وليام كارلوس وليامز، سيلفيا بلاث، غينسبرغ، روبرت دنكان، جون آشبيري، آنا
سكستون، روبرت بلاي، جون لوكان، فضلاً عن نيرودا، ريلكه، فاسكو بوبا وآخرين
أصدر سركون بولس عدداً من الدواوين الشعرية وهي "حامل الفانوس في ليل
الذئاب"، "إذا كنت نائماً في مركب نوح"، "الأول والتالي"، "الوصول إلى
مدينة أين"، "الحياة قرب الأكروبول". كما صدرت له مختارات شعرية مترجمة
بعنوان "رقائم لروح الكون"، ومجموعة قصصية تحت عنوان "غرفة مهجورة"
باللغتين العربية والألمانية، فضلاً عن سيرة ذاتية بعنوان "شهود على
الضفاف".
وبالإضافة إلى الشعر، كان سركون بولس رساما ماهرا، وقد شارك بعدة معارض
في سان فرنسيسكو، حيث رسم العديد من اللوحات الزيتية، وهي لوحات جميلة تشبه
شعره كثيرا، وتوحدها تلك النغمة الغامضة التي تحمل في أعماقها أسرارا لا
زالت تبحث عمن يفك شفرتها.
بعض ما قالوا في الراحل
في رحيل أسد آشور
جمانة حداد/ شاعرة من
لبنان
مات سركون بولس. مات ذاك الذي "باع حياته ليشتري عينين وفيتين".
مات شاعر شعر الليل، شعر الارتجاف، شعر المصير المعلّق تحت مقصلة سيف
دائمة، شعر العزلة والهشاشة والعجز بمعناه النبيل، شعر ضرب الرأس بالجدار،
شعر اللاضجيج والانتي آيديولوجيا، شعر الانتماء إلى الإنسان والتحرّر من
أثقال الذات نفسها، شعر الوقوف على الحافة، شعر الحساسية العالية والنبرة
الخافتة، شعر الشغف بالشعر.
مات سركون بولس رغم أنف الشعر الذي لم يستطع أن يخلّصه. مات رغم أنف
محبتنا له، نحن عارفيه عن كثب، ومحبّيه عن بعد. مات رفيق جان دمو وجليل
القيسي وأنور الغساني ويوسف الحيدري وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي. مات شاعر
الشعر بصفته شعراً معاشاً قبل أن يكون قصيدة مكتوبة. مات شاعر الشعر بصفته
انتحاراً يوميا على الورق.
الحجم الكمي والتأثير
النوعي
صـبحي حديدي/ ناقد من
سوريا
رحل سركون بولس شاعرا كبيرا صاحب تجربة كبرى، بالغة الحضور، واسعة
التأثير.
إنّ الحجم الكمّي لنتاجه الشعري لم يتناسب البتة مع حجم التأثير النوعي
الهائل الذي مارسه منذ مطلع سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم في الواقع،
على جيلين متعاقبين من الشعراء العرب، وشعراء قصيدة النثر على نحو أخصّ.
وغنيّ عن القول إن تجربة الراحل الكبير اشتملت علي العديد من الاختراقات
التعبيرية والفنّية والجمإلية، فضلاً عن تلك التي تخصّ موضوعات قصائده.
زاهد بالأوصاف والألقاب
صالح دياب/ شاعر من
سوريا
يعلمني سركون بولس الكثير الكثير عن مفهوم الشاعر.. وألفته وعاديته..
وزهده بالأوصاف والألقاب. أحب شعره وأتبعه وأنتمي إليه بقوة الآن، ذلك
الشعر الذي بمقدار ما يحفر في العالم يحفر في الأغوار السحيقة. وأصطدم
وأندهش بالعالم الخارجي الذي يملأ قصيدته، وتلك اللاواقعية التي تنبثق من
الجوهر الروحاني للشعر، والتي تلمع وتشع في كامل قصائد الشاعر.
أتعلم من قصيدة سركون بولس التي تنفتح على عوالم متعددة وأزمنة مبعثرة.
أتعلم من كون كل قصيدة تستعيد الظلال البعيدة من الذاكرة وتسجل اللحظات
الحياتية للشاعر.
أطراف وأصابع وحواس
ناظم السيد/ شاعر من
لبنان
حين مرَّ سركون في بيروت وكتب في مجلة "شعر" في أواخر الستينات، كنت
لم أولد بعد. لهذا كنت أسمع عنه من أصدقائي الشعراء الذين يكبرونني، فقط
ليرووا لي أحاديث هذه المدينة السابقة. ولأننا لا نكتشف الشعراء من تلقاء
أنفسنا بل نسمع بهم أولاً "لاحقا قد نعيد اكتشافهم بطريقة مناقضة"، سمعت عن
سركون هذا المشّاء الكبير. وتعلمت منه كيف يكون الشعر مطابقا للحياة، كيف
يكون للكلمات أطراف وأصابع وحواس.
عاش كثيرا في وقت قليل
عناية جابر/ شاعرة من
لبنان
لن نأسي سركون في موته فلا يحق للسرطان أن يؤلمه بعد. رحل الرجل وكان
قد عاش على قياس رغبته في العيش. عاش كثيرا جدا في وقت قليل، وكتب الذي
كتبه، وقد خلفه لنا أخيرا لنهتدي إلى الشعر في الحياة، وليس في الكلمات.
عشقته نساء كثيرات، وكان يأنف الكثرة في عشقهن، يلوّن الوقت بالأكل والخمر
والترحال.
كان لي شرف منادمة شاعر ذات يوم. وأحسبه لم يرثِ نفسه في وحدته حيال
الموت، فقد خبر ما هو أقسى، وما هو أمرّ، سوى أنه رحل أخيراً بذخيرة من
الأماكن، والكلمات، والتفاصيل، والعلاقات الخفيفة التي لا تثقل على القلب،
ولا تجعله يدمع حين يُؤذن الرحيل.
كم كنا نحبك
إسكندر حبش/ شاعر من
لبنان
كان من قلة قليلة أشعر بانتمائي إليه، إلى عالمه الشعري الذي سحرني
ولا يزال. أشعر فعلاً أني فقدت أحد آبائي الذين أدخلوني إلى القصيدة
الجديدة وإلى الكتابة الشعرية في ما بعد. صحيح أنني لا أنتمي إلى قصيدته
كتابة، أي بمعنى استعادتها والنسج عليها، لكن هذه المخيلة النابضة التي كان
يتحلى بها، كما لغته الجديدة البعيدة عن تهويمات شعر تلك الفترة، فتحتا لي
آفاقا عديدة في الكتابة الشعرية.
لا أريد أن أرثي شاعري. صحيح أن فقدان شاعر بحجم سركون بولس، لا بد أن
يترك فجوة ما، في الشعر، في الحياة، في اللغة عينها. إلا أنه يكفي أن نعود
لنقرأ شعره، لنحس كم أن هذه الحياة تفقد الكثير من معناها. هذا ما سأفعله:
سأقرأ شعره اليوم، وأمامي هذه القارورة. فقط لنقول كم كنا نحبك. لنقول كم
أنت سمجة أيتها الحياة.
الفتى الآشوري
هاشم شفيق/ شاعر من
العراق
لماذا أيها الرب؟.. في هذه الأيام المعتمة التي تحيط بي، أتلقى هذا
الخبر المعتم.. الرهيب، ألا تكفي هذه الفجائع مترامية الأطراف التي تختم
الأصقاع والنوائي وتسم ما حولنا بالرماد السابغ، ألا يكفي حطام الحواضر
ومتوالية التأبين وأنين الأضاحي في بلد آشور بانيبال، حتى تلتفت إلى هذا
الفتى الآشوري الحالم بعوالم السلام والشعر واللحظات الرومانسية لكي يطوى
هكذا وعلى عجالة قصوى هذا الشاعر الفريد ذو الإسم الباهر الذي يذكر بحفيف
الألماس، يطوي صحبة أعوام قليلة وحياة ملأى بالكلمات، حياة متخمة بالمعاني
ومفتونة بالرؤى والمجاهل والأسرار والغوامض، حياة معبّأة في حيوات، طافحة
بالحلم وبوعد مختلف.
قرأت سركون بولس في مطالع حياتي الأدبية، فألفيته مختلفا، يحمل نكهة
شعرية خاصة به، وهذه النكهة الفريدة والغريبة هي من حصة النوابغ والحالمين
والمغيّرين المنقبين في الإكسير عن الجمال الأبدي، من هنا جاء شعره لا يشبه
أحدا، طعمه يعلق في الذاكرة كحلم مصنوع من نور.
عمارة ذات أعالٍ وسفوح
عباس بيضون/ شاعر من
لبنان
أحسب أن سركون بولس بين شعراء القصيدة الراهنة هو أقرب الشعراء إلي.
والحق أنني ما أن قرأت قصائده في مواقف حتى ذهلت. كانت هذه واحدة من
اللحظات التي نشعر فيها بشرارة الشعر تخترقنا. إنها اكتشاف أكيد. لم يتوقف
سركون عن إدهاشنا. كانت عمارته الشعرية ذات أعالٍ وسفوح. وفي أعاليه قول
للأعالي وفي سفوحه قول للسفوح. لا بدَّ أننا كنا أمام أحد أنضج رجالنا
وأكثرهم تجربة وأقربهم إلى مثال الشاعر. لكن سركون بولص الذي ضربه الشعر في
حياته بقدر ما ضربه في أدبه، قاده الشعر على دروب الحياة إلى أبعاد لم
نلحقه إليها. هكذا وجدناه أحياناً كثيرة يهجر سوق الشعر وسوق النشر وسوق
النقد. والآن حين يرحل باكراً جدا لا بمقياس السنين ولكن بقياس المقدرة
نعلم أن علينا أن نبحث أكثر فأكثر لنلتقي هذا الرجل.
الأب الحقيقي
شـوقي بزيـع/ شاعر من
لبنان
أكثر ما يؤلمني وأنا أتحدث عن سركون بولس الآن أنني أفعل ذلك بعد
رحيله، ذلك أن شاعراً مثله كان يستحق منا جميعا أن نكون أكثر وفاء لتجربته
في الشعر والحياة. لقد آثر دوما أن يقيم في الظل، أن يتوارى وأن لا يدخل في
معارك الشعراء الدونكيشوتية، معتبرا أن الحياة لا تتسع للقصيدة والضغينة في
آن معاً. لقد عمل كل جهده على تطوير قصيدة الحداثة وصنع قصيدته غرزة غرزة
من دون أن يأبه للوجاهات وللبهرجة الإعلامية. وربما اختار منفاه إيثارا منه
للمزيد في التواري، وهو يرى بأم العين ليس خراب البصرة وحده بل خراب العالم
العربي برمته وخراب العلاقات الإنسانية. وكان، وهو الأب الحقيقي للكثير من
التجارب التي جاءت بعده، يخجل من كونه أبا لأحد، ويحدب حتى على الشعراء
القادمين من مسارب مختلفة عنه حدب الأمهات.
|