اضواء على الخلفية التأريخية لاسطورة الكرة العراقية عمو بابا

 

                                                                                                                                                             ايشو سنحاريب 

                          

            لا شك ان الشرق مهد الحضارة،  الا ان الحضارة المعاصرة هي من نتاج العالم الغربي .. الذي طور ما طور ومن ضمنها الرياضة ونقلها نقلة نوعية . كان العراق مركز للعمليات الحربية اثناء الحروب الكبرى وباحتلال الانكليز ثم الانتداب او الوصاية ،  جلب البريطانيون  معهم الكثير من الممارسات الرياضية،  بذلك تشكلت الفرق الرياضية  وكان اثرها في تطوير مهارات وقدرات اللاعبين العراقيين الذين اصبح الكثيرون منهم نجوما لامعة في الملاعب الرياضية.

من ضفاف نهر الفرات .. الذي تقع عليه الحبانية،  انتشرت كرة القدم  الى ضفاف دجلة ..في بغداد.. حيث كثرت الفرق الشعبية في احياء مدينة بغداد وكانت الكرة حلقة وصل جميلة بين ابناء العراق.. هذا الوطن  الذي  كانت الرياضة  بين شبابه وشاباته  تسوده روح التسامح السليم  والسعي  لجمع الشمل  على هدف سامي ونبيل وتحت راية واحدة هي راية الوطن.

بتطرقنا الى الماضي في الحقيقة نحاول ان نلقي الاضواء على الخلفية التأريخية لاسطورة جديدة  تضاف الى عالم الاساطير العراقية  الغني باحداثه وهو   عمو بابا  ودوره المميز في الكرة العراقية.

عمانوئيل بابا داود او عمو بابا  .. من مواليد بغداد عام 1934 . انتقلت العائلة الى الحبانية في لواء الرمادي في نفس عام ولادته طلبا للرزق،  ويقول عمو ان الفضل يعود الى والدتي التي شجعتني على الكرة. تملكني حب الكرة منذ كان عمري 12 سنة. كنت اهرب من الدرس واتدرب على اي شيء يشبه الكرة، كنت اداعب بقدمي ورأسي. اتدرب حافيا ، امارس التكتيك والمراوغة والتحسس بالكرة .. التمرير ، الاخماد بكرة التنس الصغيرة، حيث لم تتوفر لنا الكرة. كنت اتدرب حتى من دون الكرة، احرك جسمي قافزا يمينا ويسارا .. طفرت السواقي والحفر،  حلقت قافزا في الهواء لكي انطح غصن شجرة. كل هذا لتطويع جسمي وتدريبه على المراوغة. كنت مع اصدقائي نضع اهدافا لا يتجاوز عرضها قدما واحدة ونراهن على التسديد.

في عام 1949 اي في  15 من العمر،  بدأ عمو  اللعب المنظم  بالانضمام الى  احدى الفرق  واللعب له في منافسات الفرق الشعبية ولمس الكرة الحقيقية اي الكرة الكبيرة،  وهو طالب في مدرسة الرمادي في لواء الدليم .. ولكفائته وقدرته الكروية التي كان يتميز بها اختير لكي ينضم الى منتخب المعارف العراقية، وقد اشترك في مباريات الطلبة في القاهرة في مصر ( الدورة المدرسية)، حيث اعتبر احسن لاعب في الدورة.

يدأت شهرته  بالانتشار وهو في سن السابعة عشر، لعب في معسكر الحبانية لمنتخب الحي المدني شاغلا مركز الشبه في اول الامر. ظهرت قابلياته الهجومية بدنيا وفنيا في وقت مبكر، وفي وضع الكرات داخل شباك الخصم وبنتيجة ذلك انتقل الى مركز الهجوم (قلب الهجوم).

في عام 1955 تضافرت جهود بعض المحبين لهذه الرياضة  لتجمع القابليات الرياضية عند الشباب الاشوري العراقي في مسعى لقيام حركة رياضية متقدمة  تضع كل طاقاتها لخدمة الوطن العراق .. وفعلا اثمر هذا الجهد بهؤلاء عندما تم افتتاح النادي الاثوري الرياضي في بغداد. في فترة قصيرة اي عام واحد تعززت المكانة الرياضية للنادي من خلال تنظيم مباراة دولية لكرة القدم  .. حيث كانت باكورة نشاطه المبارات التي تمت  بين المنتخب  الاثوري ومنتخب نادي تاج الايراني الشهير والتي جرت في بغداد عام 1956  وعلى ملعب ساحة الكشافة حيث رفع الستار  لتشاهد جماهير العراق اروع مباراة بكرة القدم في منتصف القرن العشرين. لازلت احتفض حتى اليوم بالتسجيل الصوتي الكامل كما بثته الاذاعة العراقية . لقد لعب المنخب الاثوري بقدرة وقابلية فنية رائقة  استطاع بها الفوز  على اقوى فريق عرفته اسيا بكرة القدم يومئذ، تم  جمع  الفريق الاثوري بطريقة عاجلة من محافظات اخرى وكانت فترة تأهيلهم لهذه المباراة وتدريبهم عليها قصيرة ومع ذلك سجل ابطالنا النصر على الفريق الايراني. المعروف ان فريق التاج الايراني كان من الفرق الرياضية التي لها سجل حافل في الدورات الرياضية لكرة القدم في اسيا في تلك الفترة، وسبق وان سجل الفوز ببطولة كأس الفرق الاسيوية والفوز  ببطولة الدوري الايراني. وكان اللاعب الفذ جدي كار من اشهر نجوم الكرة الاسيوية حينذاك يقود الفريق الايراني. كان  حامي الهدف العراقي  الذي   تصدى لكرات كثير اطلقها عليه الفريق الايراني اللاعب المعروف اسحق اسحق،  رفيق درب عمو بابا ، وفي احدى مؤلفاته  عن الكرة العراقية يصف  بان ما يمتاز به لاعبنا الدولي عمو بابا  ما يلي:

1-      كان مشهورا بضربات الرأس في اي زاوية كانت وباتجاه الهدف مهما كان ارتفاع الكرة.

2-      اشغال المدافعين في منطقة الجزاء من خلال الحركة المستمرة والافلات من الرقابة الدفاعية بركضه في عدة اتجاهات مجهولة لتفكيك دفاع الخصم، وكان دائما يراقب من قبل لاعبي الدفاع كتغطية مضاعفة لكونه لاعب قوي.

3-      امتاز بالتهديف المركز والتوقيت المناسب.

4-      الكرات العالية كان له فيها حصة عالية وذلك لقابليته في القفز العالي.

5-      دحرجة الكرة من بين مهاراته الفنية العديدة حيث كان يدحرجها باستقامة الجسم في الوقت الذي يجعل الخصم يجهل في اي اتجاه سوف يناولها.

6-      قدرته الفائقة على اخماد الكرة بكفاءته الجسمية (عدا الايدي) ، وكان مبدعا في لعبه وذو قدرة عالية في استخدام رأسه للموازنة والسيطرة على الكرة اثناء المباراة.

7-      امتاز بسلوكه الرياضي الجيد، وغير اناني مطلقا وغايته وهدفه كان مصلحة الفريق الذي يلعب له.

 

من خلال التدريب الشاق تبين بجلاء طموحه في الوصول الى مكانة لائقة في عالم كرة القدم كلاعب دولي يشار اليه بالبنان. وهكذا منذ وقت مبكر في حياته الرياضية اخذت الجماهير تتعرف عليه.  انتقل عمو بابا من الحبانية الى بغداد لكي يلعب لمنتخب الحرس الملكي العراقي. وبسبب الكفائة التي تميز بها فقد صدرت الارادة الملكية  بمنحه رتبة ضابط وشوهد كثيرا وهو يستلم  كؤوس النصر من المرحوم الملك فيصل الثاني اخر ملوك العراق.

بعد انضمامه الى المنتخب العسكري العراقي اثيت جدارته في اللعب وذلك بتسجيله اروع الاصابات في مرمى الخصم وخاصة الاكروباتيكية منها. وبعد ان بدأ نجمه يلمع في عالم الرياضة بدأت الوف من الجماهير تصفق له وتحمله على اكتافها.

شارك  اللاعب الدولي عمو بابا  (ابو سامي)  في عدة فرق لكرة القدم مبتدا في مدرسة الرمادي الابتدائية، منتخب الحبانية، فريق الحرس الملكي في بغداد، المنتخب العسكري العراقي، منخب النادي الاثوري في بغداد، والمنتخب  القومي العراقي.

لمكانة عمو بابا الهائلة وشهرته في مجال الكرة ارسل من قبل وزارة الشباب الى المانيا  لكي يشارك كمدرب في دورة كرة القدم في جامعة لايبزك، وكان من الاوائل في الجامعة. ومن خلال النتائج التي حصل عليها عمو بابا يمكننا التعرف على النجاح الذي لازمه خلال حياته الرياضية التي عمل بها كمدرب في فريق الكلية العسكرية، فريق نادي الطلبة، منتخب كركوك،  فريق الشباب، فريق مصلحة نقل الركاب، المنتخب القومي العراقي لكرة القدم.

وضع عمو طريقة تربوية سليمة وبذل جهودا رائعة لتنفيذ برامج مكثفة لتطوير مستوى الفريق .. فتحققت بذلك بطولات اقليمية وعالمية. اشار الكثير من اللاعبين ان ما تعلموه من عمو كانت نقطة تحول مهمة في مسيرتهم. اشرف على تدريب فرق شاركت في مجموعات تصفيات كأس الخليج ، كأس اسيا، كأس العالم ودورات اولمبية.

كانت الفرق العراقية بفضل هذا الانسان تحقق نتائج متقدمة في البطولات المحلية والاقليمية والعالمية. بعتقد الكثيرون ان التطور الذي شهدته اللعبة بفضل عمو كان ملموسا وان ما تحقق يعلو الى الفخر وذلك بخلقه لللاعبين حالة نفسية وبدنية جيدة  ببرنامج اعداد  وبذل طاقة كبيرة وهمة مضاعفة في معسكرات تدريبية مكثفة شملت بناء وتطوير وصقل مهارات.. والتدريب على طريقة اللعب الجماعي والفردي ورفع اللياقة البدنية عن طريق الاشراف على تمارين القوة ، السرعة، المطاولة.

اكثر من نصف قرن عاشها عمو بابا مع الكرة  لاعبا ومدربا ومع تلك السنين مسك عمو عصا الشهرة من طرفها.  ازدحمت عليه كثرة الالقاب، معبود الجماهير ، عمو بابا صاحب الانجازات الكروية، عمو بابا صانع النجوم، شيخ المدربين، اللغز المحير، شاعر الكرة العراقية، محارب الكرة، المبدع العراقي. وصفته الصحافة  باكبر معمر عراقي في الرياضة ، ستون عاما من العطاء ووصف بواحد من افضل رياضيي القرن العشرين وعشرات الالقاب الاخرى.

رفض عروضا مغرية للعب مع اندية عربية وعالمية. تلقى اكثر من عرض لنادي نوتس كاونتي – من اعرق الاندية الانكليزية ونادي ساتيك وفول هام وبلاك بول وجلسين ،اللعب في الكويت ولبنان واندية مصرية.

كان ضمن تشكيلة منخب العرب مرارا. نروي هنا هذه الحادثة  الظريفة من اوائل الستينات اثناء كان عمو كابتن يقود منتخب العرب ضد الفريق المصري: ان بائع الحلويات المصري  في الملعب ووقف عائقا امام نظر احد المتفرجين المصريين  وهو يصيح عارضا  حلوياته للبيع. اذ قفز عليه المتفرج برميه ارضا  وهو يصيح  " دعنا نشاهد عمو، يكفينا حلاوته ".

وفي التدريب تلقى عروضا من مصر وتونس والجزائر والمغرب واليمن والسودان ولبنان والاردن واقطار الخليج وتلقى عرضا ايرانيا للتدريب.

سمعت عمو بابا  يصرح مرارا  بقوله " اعتز واتشرف بعراقيتي ، وان كل انسان عراقي لدي  يعادل الدنيا ". هذا الرجل عمل على وحدة الوطن العراقي والشعب العراقي وبهذا الايمان فضل عمو العيش والعمل في بلده العراق بين احبائه وجمهوره الواسع. ادخل الابتسامة الى وجه الانسان العراقي في احلك الضروف – الحروب، الحصار. ادخل الفرحة  الى قلب الكاسب، المتعلم، الجندي، الضابط ، المهني،  على وجه المرحوم الملك فيصل الثاني ملك العراق،  المرحوم الزعيم عبد الكريم قاسم.   وحتى عبد السلام عارف المتدين البسيط الذي كان عبوسا للمسيحيين، كانت له مرارا  استقبال رسمي وابتسامة عريضة لعمو. شاهدنا عمو بابا  يحتضنه الشيعة ( عمو بابا يبكي في النجف ) . اعترف لي بان الشيعة في الجنوب كانوا يمدونه بالمال سرا ليدفعو عنه ضائقته المادية في العهود البائدة. ضمه الكرد الى قلوبهم وكان ذلك واضحا في اخر زيارة له حيث وافاه الاجل. احبه العرب السنة والمسلمون والمسيحيون واليزيديون والصايئة والشبك. وحتى الارهابيون الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة  صعقوا عندما عرفوا ان فريستهم  في احدى غزواتهم المشؤومة  هو عمو بابا اعتذرو له وتركوه لشأنه.

انه حقا اسطورة العراق الحديث تضاف الى الاساطير العراقية  القديمة التي يزخر بها تأريخ وطننا.

اذ نعزي الشعب العراقي كافة بهذا المصاب الاليم نتقدم باصدق مشاعر المواساة والتعزية الى عائلة الفقيد الغالي وزملائه ومحبيه والى الاسرة الرياضية كافة، معربين عن القناعة الراسخة بان اسم عمو بابا سيبقى مدونا باحرف نيرة في تاريخ ...

  

 

Home - About - Archive - Bahra  - Photos - Martyrs - Contact - Links