تهجير المسيحيين من الموصل .. دروس مستفادة

 

                                                   نبيل شانو

               صفحة أخرى من صفحات العراق الجديد ، مئات العوائل المسيحية تهجر من مناطق سكناها في مدينة الموصل التابعة لمحافظة نينوى التاريخية ، أناس مسالمون آثروا السلامة واللجوء إلى المناطق "الآمنة" في قرى وقصبات سهل نينوى هرباً من القتل والتهديد ، ليشهد (الكلدان السريان الآشوريين) آخر حلقة من سلسلة السياسات الخاطئة المتبعة ضد شعبنا منذ التغيير وحتى الآن . قد يقول أحدهم : وما الجديد في الموضوع ؟ ، ولماذا التركيز على حدث شهدت الساحة العراقية قبله حالات أشد عنفاً وأكثر اتساعاً ؟ والجواب يكمن في منطقية الاستهداف ودوافعه ، خصوصاً من الناحية الأخلاقية ، كون هذا الشعب هو شعب محب للآخرين ومسالم وهو على مسافة واحدة من بقية مكونات المجتمع العراقي الكبير ( ما عدا الإرهابيين والمتطرفين ) ولا يتبنى أية أجندة عنف خارجية كانت أم داخلية ، بالتالي ذلك ما دفع كافة مكونات العراق وكتله السياسية إلى استنكار ما يتعرض له في سابقة استثنائية ، حيث أن اتفاق الجميع اليوم على حالة بعينها أصبح غاية لا تدرك !! .

       قد لا نغالي إذا قلنا أن وضع الأقليات بوجه عام والمسيحيين بوجه خاص اليوم في العراق لهو دليل على الوضع العام في البلاد ومدى تراجعه وبالأخص من ناحية التسامح المجتمعي ، حيث يعلم من عاش وتجاور مع المسيحيين في طول البلاد وعرضها ما هو معدنهم ، وحدود ولائهم لوطنهم ، ومحبتهم وتسامحهم حتى مع من يسيء إليهم ؛ من أجل كل ذلك نقول أو نستنتج أن وضع المسيحيين هو مقياس واضح للتعايش السلمي في البلد ودرجة تقدمه وتطوره المجتمعي ، وما لذلك من تأثير مباشر على مستقبله المنظور والبعيد عموماً . بمعنى آخر أن المسيحيين ينتشرون ويعيشون ويبدعون في الظروف والحواضن الملائمة ، وهذا لم يتأت نتيجة التسامح الديني فقط ، إنما نتيجة التفتح الثقافي والسياسي والاقتصادي أيضاً ، والعكس صحيح كذلك ؛ كما النبتة المثمرة التي تزدهر وتنتج في التربة الملائمة وحالما تتحول تلك التربة الخصبة إلى أرض جرداء فأنها تذبل وتموت ، وهذا الحال ينطبق على كافة الأقليات العرقية والدينية والمذهبية الأخرى ... وبنظرة بسيطة إلى التاريخ القريب نقول أن العراق قد شهد في أواسط القرن العشرين انفتاحا في مختلف المجالات وخصوصاً في مجال الثقافة المجتمعية " المدنية " ، تلك الثقافة التي تعتمد الكفاءة كمقياس وليس الولاء الضيق لجهة بعينها ، بالتالي دعم الانتشار للشعب الأصيل في مدن وحواضر العراق المختلفة ، حيث استقر وعمل باجتهاد متميز ليعكس محبته وولائه للوطن ، بذلك ازدادت أعداده بنسب كبيرة خصوصاً خلال عقدي الستينات والسبعينات من ذات القرن ، ومع بداية الثمانينات تحمل إلى جانب أشقائه الآخرين في الوطن ضريبة الحروب والمعارك سواء بسواء لتبلغ خسائره عشرات الآلاف بين شهيد ومفقود ومعوق ، ناهيك عمن أصيب بأمراض نفسية وعقلية مزمنة .

         وبعد التراجع الأمني والثقافي والاقتصادي نتيجة الشمولية والقسوة والحصار انحسر مد انتشار هذا الشعب ، ولتبدأ طلائع موجات الهجرة في بداية التسعينات من القرن الماضي بخطين : الأول إلى خارج العراق ، والثاني إلى الأماكن الأصلية في شمال الوطن ( سهل نينوى وغيره ) ؛ تلك كانت بداية التراجع في موضوعة العيش السلمي داخل المجتمع الكبير ، صحيح أن تلك الهجرة لم تكن بالضرورة بفعل فاعل "كما هي الحال في الوقت الحاضر" ، لكن يبدو أن المسيحيين قد استشعروا الخطر القادم مع الزمن باستقرائهم الوضع العام المنذر بما لا تحمد عقباه . بعد التغيير تفاءل الجميع بالخير أو بصورة أدق من كان يظن أن العهد السابق كان هو سبب كل المصائب والمشاكل في العراق ، لتزداد وتتفاقم معاناة المسيحيين ولتنخفض مجدداً قراءة مقياس التعايـش السلمي والتطور المجتمـعي ، فمع دخول أيديولوجيات عنفيه متطرفة جديدة تنكر على الآخر رأيه بل وحتى وجوده ، وظهور قوى سياسية مهيمنة على المشهد العراقي ، ليصبحوا بالتالي عرضة للمزايدات الرخيصة الهادفة إلى احتوائهم من قبل هذا الطرف المسيطر أو ذاك ، مما أدى إلى انتهاء وجودهم الفعلي في كثير من المحافظات ، وليصبح ذلك الوجود شكلياً في محافظات أخرى مثل بغداد والبصرة والموصل وكركوك بعد أن كانوا يمثلون ثقلاً نوعياً وعددياً فاعلاً فيها ؛ لتتفاقم بالتالي موجات الهجرة إلى الخارج طلباً للأمان وضماناً للحد الأدنى من المستقبل وآماله .

       ثم جاءت الأحداث الأخيرة ، إثر إلغاء المادة ( 50 ) الشهيرة وما تبعها من قتل وتهجير قسري طال مئات العوائل (كما أوردنا سابقاً) ، ليؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن ما يتعرض له هذا الشعب الأصيل ما هو إلا مخطط يسعى لتنفيذه البعض من أصحاب الأجندات ، من اللذين يرون أن هذا الشعب القليل بعدده والكبير بتأثيره يشكل خطورة دائمة على مخططاتهم وأهدافهم ، وهنا لا نبرئ الآخرين من الساكتين أو من الرافضين عبر وسائل الإعلام لأن مثلهم كالساكت عن الحق ؛ وإلا كيف نفسر استنكار الجميع وبراءتهم مما حصل ، ودعوة الجميع إلى إنصاف المتضررين ! ، فمن المسؤول إذن ؟ أم أن المظاهرات التي خرجت في شوارع المدن والقصبات قد

حرضت البعض على معاقبة المسيحيين بسبب مطالبتهم بحقوقهم وبهذه الطريقة الحضارية ، أم كان من المفروض إعلان فروض الطاعة والخنوع والقبول بما يجود بهم بعض الأشقاء عليهم ، وكأنما الديمقراطية هي مجرد شعار انتقائي لا يجوز للبعض استخدامه كما الآخرين ؛ وهنا ولكي لا نبتعد كثيراً عن الحقيقة نقول أن بعض من أبناء شعبنا ساهم بهذا الوضع عن طريق رفع سقف المطالب غير الواقعية ، مما أدخل شعبنا عموماً في حالة من سوء الفهم في نظر الآخرين من اللذين يتصورون أن كل المسيحيين قد أصبحوا رقماً ضمن أجندات مدفوعة الثمن ، وهنا الخطأ بعينه ، فنضال الشعوب دائماً ما يتعرض إلى إخفاقات في مسيرته نحو ضمان الحقوق ، وليس من المستغرب أن يشتط البعض عن القاعدة ، مفضلين بذلك المصلحة الآنية ، مادية كانت أم سلطوية على الأهداف طويلة الأمد ؛ ونذكر هنا أن من خطط ونفذ ما جرى مؤخراً لم يكن يتوقع أن ينقلب مخططه عليه ، فاحتضان أهل سهل نينوى واستقبالهم لأشقائهم من مسيحيي الموصل بأذرع مفتوحة قد استنهض لدى هؤلاء وإلى حد ما شعور الانتماء والمصير الواحد ، وما تبع ذلك من اهتمام إعلامي محلي وعالمي شامل ، وما سيتبع ذلك من دروس مستفادة ستعطي نتائجها في مناسبات قادمة من انتخابات مجالس المحافظات وغيرها ؛ فلم يعد من الممكن أو بالأحرى من الصعوبة مستقبلاً وضع القضية المسيحية في سوق النخاسة السياسية للمزايدة أو المتاجرة بها .  

      إن الديمقراطية اليوم لم تعد تقتصر على معناها السابق ( حكم الشعب ) ، إنما تطورت ولقحت بمفاهيم جديدة كالعدالة وحقوق الإنسان لحماية الفرد أولاً ومن ثم بناء مجتمع واعي قادر على مواجهة الصعوبات ، فاستهداف المسيحيين ليس الحلقة الأخيرة في سلسلة الوضع العراقي غير المستقر ، حيث لا زال الطريق في أوله لبناء دولة العدالة و القانون .

                        

 

Home - About - Archive - Bahra  - Photos - Martyrs - Contact - Links