التراث هوية الأمة ومفخرة الوطن

 

                                                 بدران امرايا

              لايخفى على القارئ اللبيب ما للثقافة والتراث من دور فعال وريادي في شحذ وإبراز وتجسيد معالم وسمات الهوية القومية لأية امة على وجه المعمورة فهي تشكل اللمحات الأساسية والرتوش الجمالية وتستبين معالم ومفردات وجودها وتمييزها عن بقية الأمم والشعوب "كل امة تعرف بثقافتها وفنونها" فهي تصقل وجهها الحضاري وتضفي عليها سمات القوة والحيوية، فالتراث يعرف بأنه مخزون إنساني يتراكم عبر مرور السنين من فعاليات وممارسات ونشاطات مادية ومعنوية لأبناء الأمة خلال مسيرتهم الحياتية اليومية من على مسرح الحياة، لكن بتطور سبل ومناحي الحياة العصرية وتجديد معالمها على الدوام والتجديد هي سمة من سمات الحياة الدائمة منذ الأزل ولحد الآن، وهذا بحد ذاته يفرض عليها التهميش والاستغناء عن إحياء وممارسة بعض أوجه الموروث الحضاري والذي لا يواكب روح العصر وصرخة الموضة، وان لكل عصر أدواته وفعالياته وممارساته الخاصة به فلا تتلاءم إن مورست في غير أوانها او إطارها الزمني المحدد وتتناشز فاقدة لقيمتها وخصائصها الذاتية، وبعدم ممارستها او الاستعانة بها فإنها ستترسب إلى حيث عالم السكينة وتخضع لعملية الضمور والتلاشي والاضمحلال والى حيث وادي النسيان.

وان بقي هذا الموروث قيد التداول و التناقل عبر اللغة والكلام الشفوي بين الناس فان سبل زواله واضحة المعالم و تكمن في إطار الأفق المنظور والقريب وتكمن وتتكفل بمدى بقاء حياة الشخص المتقن لها وتواكب مسيره في النعش متى فارق نسمة الحياة وانطفأ سراجه المتقد، وهذه إرادة ربانية لا غبار عليها تخضع لها الأحياء بمجملها، ولكن اخذ هذا الكم العظيم من الموروث الشعبي القومي والإنساني فهو فعل إرادي ويخضع لمشيئة وسلطة الإنسان ويتحكم بالسيطرة التامة والانسيابية لمسيره ومجراه إن أدرك ووعى لذلك الواجب الإنساني.

التراث يعني الموروث المادي والمعنوي  وكل ما للأمة من نشاط وفعالية ممتدة من سالف وغابر الأزمان، انطلاقا بالأغاني التي كانت متنوعة المصادر والأزمان من حماسية أبان الحروب والمنازعات او أيام السلم خلال العمل موسم الحصاد وجني الثمار وتصفية البيادر والإعراس وغيرها، او رثائية أيام الشدة والمحن التعازي والمآتم وما إلى ذلك، والأقوال المأثورة والأمثال والحكم المعبرة والحكايات والقصص الشعبية والعاب فردية وجماعية ذكورية وانثوية شبابية وغير شبابية وحتى المسبات فإنها تدخل قالب الموروث الشعبي للأمم، حيث كان لكل فصل ألعابه وممارساته الخاصة وتخضع لعوامل وظروف مناخية وزمكانية معينة، فكانت أجواء القرى وغيرها من الأماكن تستدعي بإلحاح لخلق وإيجاد هذه الممارسات الشيقة للترويح عن الذات واللهو وتمضية أوقات الفراغ ولإضفاء وتأجيج مكامن روح المنافسة عند الفرد، حيث لم يكن هذا الكم الهائل من موجودات عالم اللهو والمرح ووسائل الراحة متوفراً وقتذاك.

وان الحياة بطبيعتها تتجدد عبر تطور الأجيال وفي نفس السياق فان حاجات وأدوات الإنسان تتطور من شكلها البدائي البسيط نحو الأحسن والأدق وتطرح ماكينة الحياة الأشياء القديمة المادية والمعنوية وتهمشها على خطى مسيرتها الدينامكية. فقديما لم يكن بوسع الإنسان تدوين وتسجيل وتصوير هذا الكم من النشاطات والأحداث والفعاليات الفكرية والمادية بتفاصيلها الدقيقة وحفظها، بل خضع لعملية النسيان ومن ثم الاندثار لأسباب عديدة.

فأجدادنا العظام من السومريين والاكديين والبابليين والآشوريين لم يدخروا وسعا في  الإبداع والحفاظ على مورثوهم الثر لإدامة وصوله للأجيال اللاحقة بأمانة واقتدار عبر آلاف السنين وهو يتجسد في المواقع الأثرية والألواح المخطوطة والجداريات والتماثيل والأبنية والقصور الشاهقة والأسوار العالية والقلاع والسدود والأواني المعدنية والفخارية الثيران المجنحة "لاماسو" وأسد بابل والمدن وغيرها. وما يؤلمنا تعرض متاحفنا العراقية لعاصفة هوجاء من التخريب والسطو والسرقة والتهريب أثناء عملية التغيير عام  2003 وهذه بحد ذاتها خسارة جسيمة لا يمكن تعويضها على الإطلاق والمضحك المبكي ان الشعوب تسعى جاهدة لاسترداد ما لها من رموز تراثية خارج أوطانها لترجع متربعة لمكانها الأصيل وتتعطر بنفحات من نسيم الوطن العليل وتقترن بأرضها الأصيلة ليزداد جمالها ورونقها على العكس من شعبنا العراقي الذي شهد الأيادي العابثة وبمباركة جهات خارجية تعيث في الأرض فسادا وتدمر رموز ومعالم حضارته العتيدة ولم يأبه لذلك، فكنا نتمنى أن يكون كل تراثنا ومقتنيات متاحفنا خارج القطر على الأقل لتكون بعيدة ومصانة من سطوة هؤلاء العابثين، والعمل بكل ما من شانه ان يرفع من قيمنا ونفتخر به على الدوام.  لكن هذا لا يكفي والتبجح به هنا وهناك، لكن الواجب كل الواجب يدعونا ونحن في خضم هذا الحياة التي تعج بوسائل الحفظ والارشفة والتصوير المتطورة ومجالات النشر العديدة وهذا بطبيعة الحال يفرض علينا الواجب ممارسة دورنا الفعال كأفراد ومؤسسات ذات الصلة الحكومية والمستقلة والإعلام المسموع والمقروء والمرئي بان لا ندخر وسعا لحفظ ورفع شاننا وقيمنا المادية والمعنوية والدفاع عنه من أيادي اللصوص والسطو والطمس والتشويه لان التراث او الموروث الشعبي هوية الأمة وعنوانها ووساما لازورديا لامعا على صدور أبنائها الغيارى، وعلى كتابنا وأدبائنا الأعزاء استغلال أقلامهم وفعالية مدادها في لم وجمع وتدوين ما أمكن من تراث الأمة الزاخر ونشره في صحف ومطبوعات ورقية والكترونية ليكون في متناول الأجيال اللاحقة لتشتم من عطره العبق وتسير على هدى نوره لرفع الروح المعنوية الايجابية والبناءة فيهم لخدمة الأمة والوطن والإنسانية جمعاء وعدم تركه قيد شفوية الذاكرة ويطويه الزمن بزوال صاحب الذاكرة وكم من هذا الموروث الشعبي الهائل ذهب سدى كونه لم يسطر على بياض الورق.  وعدم الزج بأقلامهم في خضم سجالات بيزنطية عقيمة وأوراق صفراء هزيلة لا تهدف إلا لدغدغة مشاعر الفرقة والتشرذم في الصفوف المعادية لوحدتنا و لتطلعاتنا القومية المنشودة والمشروعة...

 

 

Home - About - Archive - Bahra  - Photos - Martyrs - Contact - Links