قرية صوريّا شاهد اخر على الجرائم المرتكبة ضد ابناء شعبنا

                                                 سرمد فائز القس

              "من اراد ان يتبعني فليفكر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني لانه من اراد ان يخلص نفسه يهلكها، ومن اهلك نفسه من اجلي وجدها"

الانتهاكات والاعتداءات التي تعرض لها الكلدو اشوريون في العراق على ايدي ازلام النظام المباد والتي شملت تدمير مئات القرى وعشرات الاديرة والكنائس القديمة فضلا عن التصفيات الجسدية التي طالت رجال الدين المسيحيين لم يسلط عليها الضوء بصورة واضحة خلال الفترة التي تلت تلك الحقبة المظلمة من تاريخ العراق والان حان الوقت لنروي للاجيال احدى الجرائم الجماعية التي نفذت في وضح النهار التي قتل فيها العشرات واختفى ايضا المئات من الذين لايزال مصيرهم مجهولا..

والتي لم ينجُ من الجريمة البشعة الا قليلون فقط.

ففي قرية "صوريا" وهي قرية كلدو اشورية تقع في سهل السيلفاني جنوب غرب زاخو، على ضفة نهر دجلة الشرقية، كان يسكن هذه القرية عدد من العوائل الكلدانية المسيحية واخرى كوردية مسلمة، كانت هذه العوائل تعيش معا بأمان وسلام الى ان استلم النظام الدكتاتوري مقاليد الحكم في العراق من خلال انقلاب عام 1968 وشن حربا على كوردستان العراق وارتكب خلالها شتى الجرائم المنكرة بعد استلامه السلطة لفترة وجيزة، كانت احدى هذه الجرائم جريمة قرية "صوريا"..

وقعت ابشع جريمة في تاريخ تدمير القرى المسيحية، كانت هناك وحدة عسكرية تتمركز في ناحية "العاصي"، قامت هذه الوحدة حسب التوجيهات الواردة اليها بجولات في قرى سهل سليفاني ومنها هذه القرية..

حيث قام الضابط "عبد الكريم الجحيشي" من ازلام النظام البائد في "16 / 9 / 1969" بجمع "54" عائلة من اهالي القرية في مكان كان يسمى حين ذلك "مزرعة الثوم" وامر هذا الظالم بجمع اهل القرية صفا واحدا وبضمنهم راعينا وابينا الاب حنا يعقوب قاشا صاحب المسيرة الكنسية المعروفة في الارشاد الروحي والخدمة الايمانية تحت شعار كان يردده "ها انا جئت لاعمل بمسيرتك يارب".

ولد الكاهن "حنا يعقوب قاشا" في محافظة نينوى عام 1919 من عائلة تنتمي الى اصول كهنوتية منذ القدم.

واوضحت عائلة الفقيد المأسوف على روحه الطاهرة بأنه كرس حياته الكهنوتية لخدمة التعاليم المسيحية الصحيحة وخدمة الطائفة المسيحية الكلدانية في معظم القرى الشمالية ولم يقتصر عمله على الخدمة الدينية بل شمل الخدمات الطبية باستخدام الاعشاب الطبية وبعض المواد الكيماوية، وكان ايضا من الناحية الثقافية ضليعا باللغات فاتقن الفرنسية والايطالية اضافة الى اللغة الكلدانية، ولم يثنه شيء عن اداء واجباته الدينية ومراسيم القداس ايام الاحاد والاعياد ومناسبات السنة الطقسية.

وكان فقيدنا الراحل بالجسد دائم التنقل بين القرى المسيحية وكان باستطاعته التمركز في محافظة نينوى مسقط راسه ومقر بيته واهله، لذا عرفه اهالي زاخو وبرطلة وتلسقف والقوش وقرقوش وسميل وغيرها.

دخل المأسوف عليه الى المعهد الكهنوتي لمار يوحنا الحبيب عام 1933 حيث قضى فيه عشر سنوات منكبا على الدراسة وممارسة الفضائل اللازمة لانه اصر على دخول درجة الكهنوت المقدسة ويشهد له رؤساؤه انه رحمه الله من افضل تلاميذ المعهد ذكاء ونشاطاً وعلماً وغيرة وطاعة.

  

ونال رتبة الكهنوت صباح يوم 15 / 5 / 1943 مع خمسة من الاباء الفضلاء هم "جبرائيل رفو، ويوسف شليطا، وعبد الاحد نجار، وقرياقوس موسى، وميخائيل عزيزة" وذلك بوضع يد السعيد الذكر مار يوخنا مطران العمادية وبحضور القاصد الرسولي.

التحق الفقيد الطيب الذكر بابرشية زاخو لان والده من اصل هذه الابرشية فخدم النفوس في دهوك، وقضى في قرية "قرة وله" على الحدود العراقية التركية نحو عشرين سنة في تلك المنطقة الصعبة النائية كان الكاهن والمعلم والطبيب والمرشد والمرافق الايماني لابناء المنطقة ومن ثم انتقل الى قرية "ديرابون" وبعدئذ الى قرى "افزروك واشكفدلي وبغلوجا وصوريا" فسعى الى بناء المعابد وتأثيثها على قدر الامكان وثابر على مواصلة الخدمة الروحية حسب مايمليه الواجب المقدس دون تذمر او ملل او هرب من المسؤولية حيث كان ينتقل ايام الاحاد والاعياد لاقامة القداس وارشاد المؤمنين وخدمتهم واضعا نصب عينيه على الدوام شعاره الكهنوتي "ها انا جئت لاعمل بمسيرتك يارب". وفي عام 1968 كان قد مضى 25 سنة على كهنوت الفقيد الفاضل متنقلا في قرى ابرشية زاخو. وبمناسبة تلك الذكرى كتب رحمه لله رسالة جوابا على تهنئة بعث بها الية احد الروساء الاجلاء جاء فيها

" لقد احتفلت بيوبيلي الكهنوتي وسط سكوت عميق!! انها 25 سنة من الكهنوت قضيتها في العزلة وفي سكون اليم جدا احيانا لقد جاهدت وبذلت كل ما بوسعي، ويمكنني القول بتاكيد اني قد مكثت راسخا ولم استسلم الى اليأس، لاسيما في هذه الازمة الاخيرة حيث كانت الظروف قاسية.

واذا مكثت ثابتا فذلك ليس لاي استحقاق مني بل انسب الى ذلك صلواتك فكثيرا ما اجتزت في اوقات حرجة ولكني خرجت منها دوما اكثر ثباتا واحسن استعدادا للجهاد ولمواصلة رسالتي بالقرب من هذه النفوس المهملة والمتروكة في صحراء لاحدود لها!! هنا اقتنعت بان نعمة الله وعنايتة تسندني وتقويني فالف شكر للمسيح.. 25 سنة من الكهنوت... 25 سنة من الشكر العميق... 25 سنة من الايمان الحقيقي".

  

واكدت لنا عائلة الفقيد انه صباح الثلاثاء 16 / 9 / 1969 حيث كان الشهيد يؤدي مراسيم عيد الصليب مع مجموعة مؤمنة في احدى كنائس قرية صوريا اغتاله الموت على يد جيش حزب البعث بقيادة الضابط عبد الكريم الجحيشي حيث قام باستخدام مسدسه الشخصي في قتل النساء والاطفال وخصوصا النساء الحوامل فاستشهد في هذه العملية اكثر من 32 بريئا دون ذنب وكل هذا لمجرد انفجار لغم كان مزروعا من قبل مجهولين تحت ناقلة للجنود كانت تتقدم رتلا عسكريا بالقرب من القرية وكان هذا الرتل قد ابتعد عن القرية بعدة كيلو مترات، ان فقيدنا وقف بوجه هذا الجبار المعادي الذي ارسله الشيطان وقال له ان يخاف ربه لان هذه القرية امنة ولاتؤذي غيرها، فكان الرد ان يضرب باخمس البندقة على راسه امام الجميع فوقع ارضا وبعدها بدأ هذا الضابط بقتل وذبح افراد القرية ووصلت به الدناءة قتل النساء والشيوخ والاطفال واكد السيد صالح يوسف ان الاب حنا قاشا رفع رأسه مرة اخرى صارخا بأن هؤلاء الناس ابرياء فأتق الناس يارجل، عندها عاد المتكبر مرة ثانية قائلا كيف لم تمت بعد فانهال عليه بالرصاص وعلى من تبقى من اهالي القرية من رجال ونساء واطفال ولكي يدفن اعماله قام بتغطيتهم بالتبن واحراق القرية باجمعها. وهكذا كان لهؤلاء الشهداء مكانهم في الجنة مع صلاة عيد الصليب وتمكن بعض من منطقة زاخو الدخول الى موقع الجريمة واطفأ النيران بعد انسحاب الجيش وسحب الجثث ومن ضمنها جثة فقيدنا الراحل حيث تم دفنه رحمه الله برحمته الواسعة في كنيسة زاخو، وهكذا قضى مأسوفا عليه على مثال شفيعه مار يوحنا المعمذان. نفعنا بذكره الصالح في نهار الجمعة المصادف 19 / 9 / 1969.

ان رؤيتنا لجثة شهيدنا وقد ثقبها بالرصاص وراسه مفتوح باخمس البندقية بقت محفورة في اذهاننا منذ ذلك الحين. ذهب شهيدنا بجسده ولكن روحه بقت معنا وان قطرات دمه الغالية التي انطبعت على مسبحة صلاته اصبحت مباركة لدى العائلة حتى الان وتنعى الام التي دفنت كبيرها بيدها فلحقته بعد اشهر من مأساته حيث قضت ايامها الاخيرة تحتضن بدلته "بدلة الخورنة" التي كان سيرتدتها خلال اسبوع استشهاده.

اخيرا اطلب العناية الالهية ان تساعدنا نحن اصحاب النفوس الضعيفة وان تقوينا بالايمان مثل الكهنة الافاضل لخلاص النفس معهم بهذه الروح العالية التي خدم بها هذا الكاهن الغيور جميع النفوس الى اخر دقيقة من حياته.

 

 

Home - About - Archive - Bahra  - Photos - Martyrs - Contact - Links