اين نحن من التراث

 

 

                                          

                                                    منذر حبيب كًله

                                                                                                  

           التراث هو خلاصة  ماورثته الاجيال السابقة  نتيجة تفاعل الانسان مع البيئة و المجتمع في كل مجالات الحياة المختلفة ، وهو علم يختص بالثقافة التقليدية والشعبية ويسلط الضوء عليها من الزوايا الاجتماعية والنفسية والتاريخية ،وابراز الهوية القومية والوطنية وتعيين حدودها وافاقها . التراث السرياني  زاخر بالمعاني والقيم الاجتماعية والتاريخية ويعبر عن تاريخ حضاري طويل  لشعب عريق ،تخلله ازدهارا في بعض العصور واحباطا في اخرى ، انتعاشا في بعض الازمان وانتكاسا في غيرها وهكذا مدا وجزرا ، فتفاعل الانسان بكل قوته مع الاوضاع والمناطق  المختلفة ، والدول الكثيرة ، بشعوبها المتفرقة ، وبيئتها ومناخها وثقافتها المتميزة الواحدة عن الاخرى ، فوصلت حضارة بلاد مابين النهرين الى ابعد بقاع العالم ، سواءا على مستوى تبادل العلوم والمعارف والافكار او في مجالات  تطوير المدنية والعمران والقطاع الزراعي والاروائي ،وكذلك المجالات العسكرية المختلفة ، ولاتزال الخطط العسكرية لتلك الامبراطوريات تدرس في ارقى الجامعات العالمية ، وكانت اللغة السريانية عصب حياة ذلك الزمان وبدون منافس ، فكانت لغة التفاهم والكتابة والتعليم والتجارة والترجمة ونقل العلوم من الاغريق الى العرب وغيرهم  وبالعكس ، وكانت ولاتزال لغة الكنيسة السلسة المحببة الى قلوب ابناء شعبنا ، اللغة التي كتب الطقس الكنسي بها ، فحافظت عليه وحافظت الكنيسة عليها (اللغة)

           ولكن كما تعرض شعبنا الى الاضطهادات المختلفة الكثيرة كذلك تعرضت ثقافته وتاريخه الى التحريف والتزوير ، من قبل الفرس والاتراك (الامبراطورية العثمانية ) حيث احتلا بلاد الرافدين لقرون من الزمان     ، ومن ثم  الى نفس السياسة بالاضافة الى الاقصاء والتهميش من قبل المحتل وشركائنا في الوطن الواحد ايام الاحتلال البريطاني للعراق ، ولم يكن بأمكان ابائنا واجدادنا الوقوف بوجه الطغاة والمحتلين ولأسباب قد تكون تعبوية عسكرية اوان تلك الهجمات كانت شرسة خالية من اي معنى من معاني الانسانية ، لوحشيتها وقساوتها ، كما حصل بسبب هجمة تيمورلنك و ميركوروطهماسب ونادر شاه وغيرهم من الطغاة والقتلة ،فكانت لتلك الهجمات والاضطهادات عوامل  واسباب مهمة في تقويض وحصرثقافتنا   وتفاعلنا  الاجتماعي والنفسي ، لابل ورث المحتل  سياسة حية فاعلة  للاستمرار بهكذا اعمال بحجة ان شعبنا قد ضعف وليس بمقدوره بعد ماحدث ان يدافع عن نفسه او ان يرجع الى سابق عهده ،  كذلك دخول شعبنا الى المسيحية والعمل بوصايا (المسيح) له المجد في تحريم القتل ونبذه وابداء اعلى معاني المحبة والتسامح والتاخي مع الاخرين ، في الوقت الذي كان العدو يعمل بالضد من هذا فيرفع السيف عالياً ويقتل وينتهك كل شيء(الجهاد والفتح ومقارعة الآخر في دار الحرب)، فتعرضت كل مقوماتنا الى الهجمات ( اي ان الهدف لم يكن الانسان نفسه بل كل ما يتعلق بهذا الانسان من قيم ومعاني ) بدءاً بالعادات والتقاليد   والثقافة واللغة والتراث الى التاريخ والاثار والدين والارض وكل التفاعلات الاجتماعية والحياتية المتشعبة ،فتم  اعادة كتابة التاريخ من جديد ،وقام بهذا العمل ناس اختصاصيون متمكنون في دراسة التاريخ وتحريفه ، جديرون بثقافة اقصاء الاخرين والغائهم ،وتم القضاء على اكبر نسبة من المجلدات والكتب والمخطوطات بهدف طمس التاريخ والتراث والاثار وتغيير هويتها الكلدانية السريانية الاشورية ،فتم اطلاق اسماء جديدة على المدن والقرى والبلدات والانهر وحتى اسماء المناطق والاراضي والمواقع الآثارية المهمة  وتم توثيق ذلك بالخرائط والمخطوطات ،وتعرضت العادات والتقاليد والازياء الى المحاربة والانتقاص من شأنها ودلالاتها المعنوية وثبات انتماء السكان الاصلين الى الارض والمكان فقام الانسان الجديد بفرض ازياءه وعاداته وتقاليده بقصد ضياع الهوية والانتماء  والتغير الديمغرافي  (قسم من ابناء الشعب ارتدوا الازياء العربية وغيرهم ارتدوا الازياء الكردية والتركية  )    ،لكن لكون تراثنا حي وزاخر بالحياة والمعاني استطاع المقاومة والبقاء   بشكل نسبي ولكن ! !

وكما ذكرنا سابقا فان  الكثير من القرى والمناطق والتلال الاثرية استبدلت اسمائها  باسماء لاعلاقة لها بالتراث السرياني، الا ان عدد اخر  منها اصبحت اسمائها متداولة من قبل ابناء هذا الشعب ولم يستطعوا تغيير كل شيء ، فبقيت تلك الاسماء منقوشة على صدر التلال الاثرية والمناطق الزراعية وطيات الجبال والنهيرات ، فعند اجراء التسوية على الاراضي لتسجيلها في الثلاثينيات من القرن الماضي واطلاق اسماء المقاطعات الزراعية  لتوثيقها  كان هناك غياب لدور المثقفين والمختصين من ابناء شعبنا  في تسمية المقاطعات والخرائط الزراعية ، بعكس ماحصل في المدن الاخرى في العراق ،فأطلقت الاسماء بدون دراسة او اعطاء اية دلالة تراثية او تاريخية للمقاطعة لغاية في نفس القائم بالعمل في ابداء التغير الثقافي والمناطقي الديموغرافي ، ففي القوش مثلا سميت المقاطعات الزراعية في القوش بالشرقية والغربية والشمالية والوسطى والجنوبية والشمالية الغربية والجوار وتناسوا بقصد تسميتها باسماء سريانية، في الوقت الذي كان بأمكانهم تسميتها بالاسماء التراثية والدارجة في المنطقة ،هذا من جهة ومن جهة اخرى نرى ان تراثنا  تعرض ويتعرض الى الاهمال من قبل ابناء شعبنا انفسهم وذلك لأن الكثير من الناس يعتبرون التراث والتاريخ والاثار اشياء مجردة ومتحفية وغير ذات فائدة او جدوى وانها مجرد كتب متروكة على الرفوف تراكم عليها تراب الزمن ففقدت معناها  ، فنرى على سبيل المثال غياب مظاهر التراث في حفلات الزواج في الوقت الحاضر والابتعاد من الاغاني التراثية السريانية والازياء الشعبية ، والعمل بكل قوة في تقليد الغرب والفضائيات مثل (مسايا) والمسلسلات التركية ، فالاغنية العربية الخفيفة والسريعة والتي لامعنى لها غير الرقص ، وكذلك الرقص الشرقي الذي اصبح جزء واضح من برنامج الفرقة الموسيقية ، والازياء الغربية ذات الالوان الزاهية والمواصفات الخاصة  ،هذه التغييرات تضع  جيل الاباء بعيد من المشاركة و المسرح لأنه لايمكن للام والاب ان يشاركوا في مثل هذا الرقص الغربي الصاخب البعيد عن تراثنا وثقافتنا ،( وهنا لااقصد الانتقاص من قيمة الفن الغربي ) بعكس الرقص التراثي  القديم  والحيوي والقابل للتطوير حسب الاله الموسيقية الحديثة كما نلاحظه في الفن التركي غناءا ولحنا ورقصا واداءا   ، فحافظوا الاتراك على تراثهم واضافوا اليه الاله الحديثة فطوروه ، اما نحن نعمل على نسيانه بقصد او غير قصد ، وهنا تحضرني بالمناسبة الاستهانة التي كانت توجه ضد ابناء شعبنا من قبل اقطاعيي الموصل والسلفيين والمتشددين والعنصرين ، حيث كانوا يطلقون عليهم او يسمونهم (فليحي )اي الفلاح او الامي او المتخلف بقصد الاهانه والتقليل من شأنهم ، في الوقت الذي كانوا ابائنا هم السكان الاصليين وغيرهم بدو ورحل وفاتحين جدد ، فالدبكات الشعبية التي كانت تضفي عليها معاني التراث بأزياء الاباء والامهات وبمشاركتهم بدون تردد والرقص بكل حرية لأن ابائهم واجدادهم كانوا يرقصون  في مناسبات الزواج  تعبيرا عن وجدانهم وحبهم وتفاعلهم الحياتي والثقافي الموروث، هذا يثبت افتقار الكثير من  الناس الى ثقافة عامة والى دراسة ومعرفة اهمية اللغة والتراث والتاريخ وكل مايتعلق بمقومات  الوجود ، ومن هؤلاء اعداد غير قليلة من العوائل فضلوا التكلم باللغة العربية في البيت مع افراد العائلة  مما ادى الى عدم تعليمها من قبل الابناء ونسيانها مما ادى الى فقدان اهم مقوم من مقومات اثبات الهوية، وكذلك اطلاق التسميات سواءا اسماء اولادهم او محلاتهم باسماء غريبة ،في الوقت الذي تقوم الشعوب والامم بأحياء تراثهم بتسمية اراضيهم ومقاطعاتهم ومحلاتهم والكثير من المظاهر والاشياء باسماء لغتهم ومعاني تدل على تراثهم وتاريخهم العريق في الوقت الذي نجد انفسنا بعيدين كل البعد من تلك الافكار فنادرا مانشاهد  اسم محل من محلاتنا التجارية قد كتب باللغة السريانية في كل مدننا  ، بالرغم من اننا يجب ان لاننسى القرارات  السلبية التي اتخذتها الحكومة قبل 2003 في منع تسمية اولادنا بأسماء تدل على تراثنا ووجودنا واسماء ابنائنا المعروفة ،واننا ليس لدينا من مشكلة في التسميات ولكن الاخرين  لايقبلوا ان يسموا اولادهم بأسماء نابعة من تاريخنا وتراثنا ، كما فعلوا ابائنا فسموا اولادهم باسماء عربية وكردية وحتى انكليزية او  روسية ايمانا منهم بان التسمات ليست ذات اهمية تذكر ،ولوا فعلوا ( اي الآخرين )ذلك لما كتبنا هذه الكلمات وكانت الفوارق قد ازيلت وتراثنا قد تم تجسيده ولاخوف على الناس والشعب ولاخوف من الاقصاء والتهميش

يبقى للتراث معاني سامية ومدلولات انسانية واجتماعية  كثيرة وهذا ما يلتمسه الناس عندما يرجعون الى عادات وتقاليد وتصرفات ابائهم فيعتزون بهم وبأزيائهم وعددهم المستخدمة في الحرف المختلفة ، ويوثقون ذلك في ثقافتهم وكتبهم وقصائدهم ومخطوطاتهم ومذكراتهم وسيرتهم الذاتيه ، ومن منا لايشعر بالارتياح والفرح عندما يشاهد الازياء والالات القديمة؟ او من منا لا يعتز باثار شعبه ويدافع عنها في جميع المحافل؟

ان الذي يحصل حالياً هو انفصال الاجيال الجديدة  ثقافياً من التراث الشعبي ومن كل ماهو قديم ومتعلق بالماضي ،  قد يكون واحد من اهم الاسباب هو تصاعد اعمال العنف في العراق منذ الستينيات من القرن الماضي والهجرة من القرية الى المدينة وترك اعمال الزراعة والحرف القديمة الموروثة والعمل في مجالات اخرى في المجتمع المدني الجديد ولاننسى  الهجرة الى خارج العراق والاندماج والانصهار بالمجتمعات المضيفة وما ينقله هؤلاء من عادات وتقاليد لها تأثير كبير على الاقرباء في البلد الام ،وكذلك فالفضاء المفتوح والاتصال السريع و التطور التكنولوجي السريع  الذي طرأ على معظم مجالات الحياة ( النقل ، المواصلات  والاتصالات، الاعلام ،الفضاء ، الاقمار الصناعية ، العمران وغيرها ) ولأن الانسان الحالي يعشق التكنولوجيا مهما كانت سلبياتها ،هذا يخلق فراغاً واسعاً بين الماضي والحاضر ، فكل ماهو من الماضي فهو قديم  ويحتاج الى تغيير ،حتى لو كانت تعاليم او طراز للعمران او طريقة المعيشة او الازياء العامة ،  او الفنون الشعبية والفلكلور وغيرها ، (واصبح الموديل ) ظاهرة لابد منها ويجب مراقبة المسلسلات المدبلجة والمجلات المختصة للتعرف على كل ماهو جديد ، لتقليده مهما كانت الاسباب ،

هنا يبادر الى ذهننا ان هذا الانفصال يجعل الاجيال الجديدة بعيدة كل البعد  عن التراث وسوف تتأثر نسبيا بالمجتمعات الاخرى  ، وسوف تقل عاطفتها ونسبة ارتباطها  ببيئتها ومسقط رأسها لانها سوف تبحث عن احسن المجتمعات واكثرها تقدما من الناحية الحياتية الاكثر رفاهية والاكثر تقدما في مجال الخدمات العامه ، متناسين انتمائهم الى بلدهم وتاريخهم وشعبهم وقوميتهم وتراثهم ومجتمعهم .